البدلة الرياضية التي يرتديها يكاد أن تصرخ فرحة «أنا جديدة»!. علامات الزهو والفرح تنطق من كل خلية في وجه الفتى الصغير. الابتسامة الساحرة المرسومة على وجهه نقلت صيغة المبالغة أن ضحكة فلان امتدت من أذنه اليمنى إلى اليسرى إلى حيز الواقع. ويتحسّس ميداليته الذهبية وهو واقف على خشبة المسرح، ليتأكد مرة كل ثلاث دقائق أنها مازالت موجودة في مكانها. يردد مصطفى (14 سنة): «هذا أحلى يوم في حياتي»، من على المنصة، مبتسماً لكاميرا الفضائية تارة، ولزملائه تارة، ولنفسه دائماً. لم لا؟ وقد حقق المركز الأول في بطولة المصارعة الرومانية متفوقاً على أقرانه من أولاد النوادي الرياضية و«أولاد الشوارع». مصطفى «طفل شارع»، أو الأصح «مراهق شارع». أمضى السنوات الست الماضية من حياته في الشوارع، وتحت الجسور. يؤكد أنه لم ينخرط في الممارسات السيئة التي يعتادها أطفال الشوارع من شمّ «كلّة» (مادة لاصقة مخدرة) أو تعاطي مخدرات، لكن، إن فعل... فهذا ليس مهماً. المهم أن مصطفى تمّ تتويجه بطلاً للمصارعة، وهو يحلم بأن يظل مرتدياً تلك البدلة الجديدة وأن يصبح مدرباً في هذا المجال. يقف والده على بعد بضعة أمتار، يرمق ابنه بنظرات يفترض أن تكون حانية وفخورة، وهو يؤكد هذه المشاعر الافتراضية من مثل «طبعاً ابني حبيبي فخور به» و«ربنا يبارك له ويهديه» و«أتمنى أن يبقى معنا في البيت بدلاً من حكاية الشارع». لكن حكاية الشارع تبقى واقعاً!. فمصطفى الذي لم تطئ قدماه مدرسة في حياته يعمل «جزمجي» (عامل أحذية) مع والده «أحياناً»، أي في الفترات التي يمضيها في البيت. وعلى رغم ذلك يتحدث بلياقة وكياسة ونبرة هادئة يحسده عليها أقرانه ممن يرتادون المدارس ويتلقون العلم والتربية. التربية التي تلقاها مصطفى في الشارع صقلته بكثير من الحكمة والخبرة وكأنها أضافت عشرات السنوات إلى عمره. يتحدث عن «البيت» و«الشارع» باعتبارهما ملجئيه. فأصدقاء الشارع الذين يبيت معهم الليالي، ويمضي جلّ وقته برفقتهم أقرب ما يكونون إلى الأخوة. أما أخوته في البيت فقلما يراهم. كل منهم يعمل في مجال مختلف، منهم من يعمل في صناعة الأحذية، ومنهم من يعمل بائعاً جوالاً، ومنهم من يمضي وقته في المقهى يلعب الدومينو، في مقابل رهانات مالية. حين يتحدث عن أخوته البيولوجيين لا تنتفض ملامح وجهه أو تتحرك مشاعره. وفجأة تعود الابتسامة العريضة إلى وجهه. يتقدم منه ثلاثة من الصبية يرتدون البدلات الرياضية نفسها، يحتضنونه ويقبلونه، ويباركون له على ميدالية المركز الأول. أحدهم هو «سبايدر» الحائز الميدالية البرونزية. عمره أيضاً 14 سنة لكنه أقل تحفظاً في الحديث عن أسرته مقارنة بمصطفى. ترك «سبايدر» البيت وهو في السابعة من عمره. فوالده متزوج من ثلاث نساء. لا يعرف عدد أشقائه لكنه يسرد أسماءهم: هناء وعواطف ومحمد وحسين وشيماء وأحمد ومصطفى وأسماء وزينب و«تي تي» التي لا يتذكر اسمها الحقيقي». ويقول: «أبي كان يضربني دائماً. كلّما تعارك مع إحدى زوجاته، يضربني. وكلما قابلته مشكلات في عمله، يضربني. وكلما شعر بضيق، يضربني. فتركت البيت لأني شعرت أنني مخنوق». وعلى رغم ذلك، لم يترك «سبايدر» عمله في مجال البناء. يذهب إلى عمله صباحاً ويعود إلى الشارع مساءً. ومن خلال تردده على مركز رعاية نهارية مخصص لأطفال الشوارع، تعرّف إلى المصارعة الرومانية التي عشقها فأبدع فيها. مركز الرعاية النهارية يتبع للجمعية المصرية لبناء المجتمع، وهي جمعية ناشطة في مجال رعاية أطفال الشوارع منذ سنوات طويلة. وتقول المديرة التنفيذية للجمعية السيدة سماح حسين، إن التجربة بدأت عام 2010 من خلال النوادي الرسمية بهدف استخدام الرياضة كآلية من آليات دمج الأطفال في أسرهم أو أماكن الإقامة البديلة. وتوضح: «العام الماضي نجحنا في إعادة 25 طفل شارع، إلى بيوتهم بفضل مشاركتهم في هذه البطولة وحصولهم على المراكز الأولى، وهو ما شجع الجمعية بدعم من منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) والمجلس القومي للطفولة والأمومة على تكرار التجربة هذا العام مع أطفال آخرين من خلال فريق مكون من 17 طفلاً. وتأمل حسين بأن تساهم هذه الرياضة في تغيير نظرة المجتمع السلبية تجاه أطفال الشوارع، وتغيير نظرة الأطفال تجاه أنفسهم. مدرب فريق نادي الترسانة للمصارعة الكابتن أحمد أبو طالب الذي يدرب أطفال الجمعية يقول إنه لا يدربهم فقط، بل هو صديق لهم. ويوضح: «كان الجميع متخوّفاً من التجربة في البداية، فهم أطفال أمضوا سنوات في الشارع، وأتوا إلى النادي يتدربون مع أطفال عاديين. لكن المفاجأة أن الجميع اندمج بسرعة البرق». موضحاً إن المشاحنات التي تنشأ هي نفسها التي تنشأ بين أطفال في هذا العمر. ويتحدث عن الحالات النادرة التي يتملك فيها شعور الغضب الموجود لدى أطفال الشوارع بسبب عوامل نفسية عدة نتيجة حياتهم في الشارع، وظروفهم الأسرية، ونظرة الناس إليهم، ويقول: «أحاول قدر المستطاع التعامل معها بحكمة وحذر والأهم من ذلك بحب». ويشير أبو طالب إلى أن رياضة المصارعة تحديداً هي الأنسب لهؤلاء الأطفال بحكم أنها قريبة جداً من طريقتهم في التعبير عن غضبهم ومعاركهم في الشارع، ولكن ممارستها في النادي تحكمها القواعد وقيود وروح رياضية تقبل الهزيمة والفوز». وتشير حسين إلى الفائدة العظمى من تلك التجربة، «فبالإضافة إلى تحسين الحال الصحية والجسدية والنفسية للأطفال، فإن ممارسة الرياضة بهذا الشكل وفي هذا المكان ومع الأطفال من أعضاء النادي تؤدي إلى دمجهم في المجتمع، واحتواء غضبهم، وطريقة تعبيرهم، وهذا المطلوب». وتبقى هناك «لكن»... «استدامة النشاط مرتبطة بتوفير الدعم من الجهات المختلفة»، موضحة أن الجمعية تسعى حالياً لتنفيذ نموذج تجريبي لتوفير تمويل ذاتي وكذلك مشاركة رجال الأعمال.