تكشف الأحداث الأخيرة في مصر، والتي أدت اليها قرارات الرئيس الإخواني المنتخب ديموقراطياً محمد مرسي، حقيقتين بالغتي الأهمية ليس بالنسبة الى هذه الدولة الكبرى من دول «الربيع العربي» فقط، انما بالنسبة الى البلدان الأخرى أيضاً: أولاهما، عجز النخب السياسية والحزبية والثقافية، الكامل أو الجزئي، عن ممارسة حد مقبول من الحياة الديموقراطية السليمة بعد وصولها الى السلطة من طريق الانتخاب، في مقابل قبول شعبي للعبة بكل تعقيداتها وأعبائها واستعداد للنزول الى الشارع والاعتصام فيه ذوداً عنها. والحقيقة الثانية قدرة السلطة القضائية عندما يتوافر لها حد أدنى من حرية الحركة على الدفاع عن نفسها، ليس في وجه تغول السلطة التنفيذية عليها فقط، بل لضمان سلامة اللعبة الديموقراطية أيضاً. هل تكفي الحقيقتان هاتان للاجابة عن السؤال المثار، غربياً وحتى عربياً، منذ انطلاق الثورات في هذه البلدان عن استعداد، أو عدم استعداد، الشعوب العربية ونخبها السياسية لممارسة الحياة الديموقراطية، انتخاباً واحتراماً لارادة الناس وتداولاً للسلطة؟ واقع الحال، أن ما ذهب اليه «حزب الحرية والعدالة» (جماعة الإخوان المسلمين) الذي ينتسب اليه الرئيس مرسي، وأخذ شكل «اعلان دستوري» جديد وقرارات رئاسية وصفت بأنها «فرعونية» ولم يسبقه اليها أي من الحكام السابقين، كان دليلاً بيّناً على أن هذا الحزب الجماهيري (سيطر بالانتخاب الشعبي على مجلسي الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية) ليس على مستوى موجبات العمل الديموقراطي الذي طالما اشتكى من غيابه في العهود السابقة. لماذا هذا الانكشاف السريع لعدم أهلية الجماعة والحزب المنبثق عنها، كي لا يقال عجزهما البنيوي بعد الوصول إلى السلطة، عن مواصلة أداء ما يوصفان به من «تقية» سياسية وهما في المعارضة؟ في التقويم الأولي، هناك أكثر من سبب: - إما أن الجماعة ترى في ال51 في المئة من أصوات الناخبين مبرراً لإلغاء ال49 في المئة الأخرى، أو لاعتبارها غير موجودة في الأصل... ما ينفي أهم معاني العملية الانتخابية التي تفترض، سياسياً على الأقل، الاقتراب من هذه الأخيرة بهدف محاولة كسبها في المستقبل. - وإما أن الجماعة، خوفاً من هذا المستقبل تحديداً، أرادت الاسراع في تجسيد نجاحاتها الانتخابية، وتالياً ايديولوجيتها الفكرية، واقعاً على الأرض منذ الآن، خصوصاً بعد ما اعتبرته انجازاً على صعيد كسر شوكة المؤسسة العسكرية قبل فترة، ثم أخيراً على مستوى دورها المقبول محلياً وعربياً ودولياً في انهاء العدوان الاسرائيلي على غزة. - وإما أنها تعاني، بين التطرف والمزيد من التطرف والاعتدال بين تياراتها، صراعات داخلية تشدّها في اتجاهات متباينة، خصوصاً أن مرسي نفسه لم يكن خيارها الأول كمرشح للرئاسة، وأن تياراً في الجماعة كان يريد منافسه على الرئاسة خيرت الشاطر رئيساً للحكومة... وهذا ما لم يتم بتولي هشام قنديل المنصب. - وإما أنها، اضافة الى ذلك كله، لم تجد ما تفعله في حروبها على جبهات متعددة، ضد اليمين الراديكالي الذي يمثله السلفيون من جهة وضد الليبراليين واليسار وحركات الشباب من جهة ثانية، إلا كشف أوراقها في الفترة الرمادية هذه... قبل الانتهاء من صوغ الدستور وانتخاب مجلسي شعب وشورى جديدين، وتالياً فتح أبواب الأسئلة الكبيرة عن مشكلات مصر المتعلقة بالفقر والجوع والبطالة والصحة والتعليم ومستقبل الشباب. في الوقت ذاته، بدا العجز أو عدم الأهلية بيِّناً كذلك لجهة الأحزاب الليبرالية والحركات الشبابية (أكثر من أربعين حزباً وحركة) التي لم تتمكن على رغم تجاربها المرّة في الانتخابات المتعددة السابقة من أن تتوحد أو حتى أن تشكل ائتلافاً واحداً أو أكثر، مع أنها كلها تتحدث اللغة ذاتها وتردد الأفكار اياها، إن في مواجهة الاسلاميين، على تعدد أحزابهم وتوجهاتهم، أو على صعيد الحرص على ارساء الديموقراطية والمواطنية والحداثة في مرحلة ما بعد إسقاط الديكتاتورية وحكم العسكر. في ممارسات هذه الأحزاب، قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية وحتى بعدها، ما يدل على أن أهدافها لم تتعدَّ حدود الوصول (بالمعنى السيء لكلمة الوصولية) الى السلطة. ومع أن الرغبة في السلطة ليست عيباً في اللعبة الديموقراطية، وأن التنافس من أجلها ليس خطيئة، فما كشفته الشهور القليلة الماضية أشار بجلاء الى لا أهلية آنية على الأقل لمجمل الأحزاب والحركات الشبابية، ليس في مواجهة الاسلاميين وما يرفعونه من شعارات (تدمير الأهرامات وأبو الهول وفرض الجزية على الأقباط مثلاً) فقط، وإنما أيضاً وقبل ذلك على مستوى العمل الجاد لنقل مصر الى حياة سياسية مختلفة عما كانت عليه طيلة أكثر من خمسين سنة. وفي المرحلة الأخيرة، بعد قرارات مرسي والضجة التي أثارتها، ما أعلن عن تشكيل «جبهة انقاذ» من غالبية هذه الأحزاب والحركات، وليس كلها كما يفترض، انما يؤكد هذه الحقيقة أكثر مما يدل على وحدة غير الاسلاميين الجادة والفاعلة في موقفهم من تلك القرارات والعمل بكل الوسائل، مع القضاة الذين رفضوها وتوقفوا عن العمل رداً عليها كما مع المتظاهرين والمعتصمين في «ميدان التحرير» وغيره، من أجل إلغائها. وما يبقى أن «الربيع المصري»، ومعه «الربيع العربي» كله، ليس في أفضل حالاته بعد نحو عامين من بدء تفتّح زهوره، لكن الخريف الطويل الذي عاشته مصر والمنطقة كان يجب أن يصل الى نهايته الطبيعية والمنطقية من جهة أولى، وأن ما تشهده مصر الآن هو جزء لا يتجزأ من المشهد العام في المنطقة... مشهد الثورة التي تمر بمخاض مؤلم، كما حال كل ثورة في التاريخ، مع أنها محكومة في النهاية بنقل المنطقة الى حياة أخرى. وما تقوله شوارع القاهرة ونوادي القضاة والسلطة القضائية فيها الآن، وعلى رغم لا أهلية بعض النخب السياسية والحزبية والفكرية، إن زمن الفراعنة انتهى... ليس في مصر وحدها بل في المنطقة العربية كلها.