فشل المفاوضات بين الحكومة الإتحادية في بغداد وإقليم كردستان يفتح الباب واسعاً أمام التصعيد السياسي، والصدام المسلح غير مستبعد. ولم ينفي الطرفان أن المفاوضات بينهما خلال اليومين الماضيين، كانت «تدور في حلقة مفرغة»، نظراً إلى عدم وجود آلية واضحة لإدارة المناطق المتنازع عيها، وبينها مدينة كركوك وبلدات وقرى تتبع محافظات نينوى وصلاح الدين وديالى. الافتقار إلى آلية توزيع الصلاحيات الأمنية أو الإدارية في تلك المناطق موروث من عام 2003، حين كانت القوات الأميركية الضامن الوحيد لأمن تلك المناطق ومنع حدوث تصادم بين القوات المرابطة على حدودها والمكونات المتناحرة في داخلها. وبصرف النظر عن الدواعي السياسية والانتخابية لتوقيت الأزمة، خصوصاً أن القوات الأميركية انسحبت من العراق منذ عام تقريباً، فإن السيناريوهات المطروحة لحلها لا تبدو مرضية لأي من الأطراف. السيناريو الأول الذي يمثل وجهة نظر الحكومة الاتحادية يقوم على أساس أن لها الحق في تشكيل قوات عسكرية تفرض نفوذها من ديالى الى كركوك، وربما يتم تطويرها في وقت لاحق في الموصل (شمالاً) لفرض نفوذها على سهل نينوى. هذا السيناريو يهمل بعض الحقائق الأساسية على الأرض، وأهمها أن القوات العسكرية الكردية «البيشمركة» والأمنية «الاسايش» تفرض نفوذاً فعلياً ومباشراً في تلك المناطق منذ عام 2003 بحكم التركيبة السكانية، وأن هذا النفوذ كان موجوداً في ظل القوات الأميركية، وتغييره الآن لن يتم إلا بصدام مباشر مع إقليم كردستان الذي أعلن رئيسه مسعود بارزاني استعداده للدفاع عن تلك المناطق. والنفوذ الكردي مفروض في ظل منظمة الأممالمتحدة التي تبحث منذ سنوات عن آليات لحل مشكلة عائدية تلك المناطق ومستقبلها، فيما طبيعة القوة العسكرية (الجيش) التي تحاول التمدد إلى تلك المناطق تثير حساسيات السكان الأكراد. السيناريو الثاني المطروح كردياً والمرفوض من الحكومة العراقية، يتضمن إبقاء النفوذ العسكري الكردي في تلك المناطق وإقامة إدارة مشتركة من قوات الشرطة المحلية وليس مع قيادة عمليات «دجلة» التي يصر الأكراد على حلها. هذا الخيار يرفضه المالكي لأنه يضعه في موقف محرج سياسياً وانتخابياً، خصوصاً أن تشكيل عمليات دجلة، ورفع سقف التصعيد مع الأكراد نجح في استقطاب تعاطف السنة العرب والتركمان الذين لم ينجح الأكراد طوال السنوات التسع الماضية في استقطابهم. السيناريو الثالث المقبول كردياً والمرفوض من الحكومة اقترحه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قبيل الانسحاب من العراق، ويتضمن إخراج المناطق المتنازع عليها من تبعات الاتفاق الأمني العراقي–الأميركي، ما يسمح بإبقاء قوات أميركية لضبط إيقاع العلاقة بين الجانبين العربي والكردي، وهذا الخيار تم تطويره لاحقاً في مداولات سرية أجراها مسؤولون أوروبيون أخيراً، وينص على نشر قوات دولية تحت مظلة الأممالمتحدة لضمان عدم تطور النزاعات كما كان متوقعاً لها مع الانسحاب الأميركي. هذا السيناريو كان منطقياً قبل الانسحاب الأميركي من العراق، لو حرصت الأطراف المختلفة على قراءة مستقبل الصراع في المنطقة بشكل صحيح، لكنه يبدو اكثر صعوبة اليوم. على أي حال، يلاحظ أن كركوك تتصدر، منذ بداية العام، قائمة المدن الأكثر تعرضاً للعنف، إذ شهدت انفجار قرابة 58 سيارة مفخخة. السيناريو الرابع تطرحه أطراف داخل المناطق المتنازع عليها ، لكنه لا ينال دعم أي من الجانبين، وينص على تشكيل قوات خاصة من تلك المناطق، على أن تكون مستقلة عن السلطتين في بغداد وأربيل، وتمنح الحكومات المحلية صلاحيات واسعة واستثنائية لإدارة مناطقها. هذا السيناريو الذي قد يكون حلاً لمشكلة الإدارة والأمن عبر توافقات داخلية، لكنه يساهم في تعقيد الوضع في ضوء انعدام الثقة، فجوهر الأزمة في مناطق النزاع يتعلق بحسم عائديتها، سواء إلى إقليم كردستان أو الحكومة المركزية في بغداد، ويعتبر الطرف الكردي أن المادة 140 من الدستور التي تتضمن آليات لتطبيع الأوضاع وترحيل العرب الموطنين في ظل النظام السابق ومن ثم إجراء استفتاء شعبي لبيان رغبة الأهالي في الالتحاق بأي من الجانبين، هو مفتاح الحل، هذا ما يرفضه العرب والتركمان ويطرحون مشروعات بديلة منها تحويل كركوك مثلاً إلى إقليم مستقل. السياسيون في بغداد وأربيل يؤكدون أن «الصدام المسلح» ليس احد السيناريوات المطروحة، على الأقل حالياً، فيما يبدو لدى بعض العارفين أن الطرفين سيختاران إبقاء الوضع المتوتر في المنطقة كنوع من «توازن الرعب» إلى حين إجراء الانتخابات، إذ يأمل المالكي بكسب ود العرب السنة والتركمان لتشكيل حكومة غالبية سياسية، ويطمح الأكراد إلى تغيير في خريطة التحالفات يتيح تشكيل تحالف لإطاحة المالكي وإعادة طرح قضية المناطق المتنازع عليها على طاولة الحل السياسي.