تقول «حنة أرندت»: «ماهية التربية هي الإنجاب»، وحتى نفهم ماذا تقصد بذلك، لا بد من الإشارة إلى أمرين اثنين: الأول هو أن البشر، من بين كل الكائنات الحية الأخرى، لا يعيشون في أوساط طبيعية محايدة، كالأوكار والأعشاش وغيرها، بل يعيشون داخل عوالم يقومون بإنشائها كالمدن والقرى والدول، والإمبراطوريات، الأمر الآخر أن هذه العوالم ليست محايدة، بل كل مجموعة بشرية تعكس من خلالها تاريخها وتجربتها ومعارفها، وبضم الأمرين الأول للثاني نجد أن الإنسان لا يولد إلى الحياة هكذا بشكل محايد، بل إنما هو يولد لعالم بشري محدد وخاص. إنطلاقاً من كوننا نولد لعوالم محددة مسبقاً من الجيل السابقين علينا، فإنها تقع على مسؤولية هذا الجيل أن يقوم ب«تربية» الجيل الجديد، والتربية هنا لا تعني تنشئة فرد قادر على أن يوفر لنفسه أساسيات الحياة، بل تعني تنشئة فرد يستطيع العيش في «العالم» الذي ولد له، ويستطيع الحفاظ على استمراره في ما بعد. بالنسبة للجيل القديم، تمثل عملية الإنجاب حال خطر وطمأنينة في الوقت نفسه. حال خطر، لأن هؤلاء المولودين هم «جدد» على هذا العالم، وبالتالي قد يكونون سبباً في خرابه، وهم أيضاً حال طمأنينة، لأنهم إذا ما تمت تربيتهم بشكل جيد، فإنهم سيسهمون بالحفاظ على العالم واستمراره، بهذا المعنى فقط تصبح ماهية التربية هي الإنجاب، وبهذا المعنى فقط يصبح للتربية بُعد سياسي، يتمثل في إنشاء جيل لا يشكل خطراً على العالم الذي بناه الأجداد في الوقت نفسه الذي يكون مؤهلاً لاستمراره. لعل أول من فكر في التربية كمسألة سياسية هو أفلاطون، فهو حتى يبني مدينته الفاضلة، كان عليه أن يفترض التخلص من البالغين كافة في المدينة والإبقاء على من هم دون السنوات العشر، حتى يتسنى لملك المدينة الفاضلة، الملك - الفيلسوف، أن ينشئهم على ما يعتقده هو أن الطريقة الفاضلة للحياة. تصف الفيلسوفة آمي غوتمان دولة أفلاطون بأنها «دولة عائلية»، تقوم فيها الدولة بتحديد معاني الخير والفضيلة لمواطنيها من دون أي مراعاة لما يراه الحيز الخاص للمواطنين أي الأسر، في هذه الدولة، يقوم الفضاء العام بسحق الفضاء الخاص وإجباره على الخضوع لقيمه الخاصة. بمقابل «الدولة العائلية»، هناك «دولة العوائل»، وهذه تعمل على عكس سابقتها، فهي ترى أن مسؤولية تنشئة الجيل الجديد تقع على عاتق أسر الأبناء، ولا يحق للدولة أن تفرض عليهم كيف يقومون بتنشئة أبنائهم، في هذه الدولة ينشأ الأبناء ضمن معايير الآباء، أي أن الحيز الخاص وقيمه هي التي تسود في حين يمنع الفضاء العام من أن يفرض أي قيمة. بين هذين النموذجين، يأتي النموذج الليبرالي الذي تسميه غوتمان «دولة الأفراد»، في هذا النموذج يكون دور الدولة توفير الحرية لجميع الأفراد في أن يحققوا ما يرونه خيراً وفضيلة بأنفسهم من دون أن تتدخل الدولة في خياراتهم، حياديتها تجاه خياراتهم لا يعني أنها محايدة، بل هي منحازة لحرية الاختيار باعتبارها القيمة التي عليها توفيرها للمواطنين وتأمينها لهم. تعترض «غوتمان» على هذه الدولة قائلة: «الأمانة أفضل من الخيانة، الإنتاجية خير من الكسل، البصيرة خير من انعدام الإحساس... نحن بلا شكل نعلي من قيمة هذه الأشياء، لأن هناك في الحياة الفاضلة ما هو أكثر من الحرية». «غوتمان» هذه أستاذة العلوم السياسية والفلسفة، والرئيسة الثامنة لجامعة بنسلفانيا، ومقالتها التي أقتبس منها عنوانها «تربية غير ديموقراطية»، إذ تحاول في هذه المقالة أن تفتش عن أساس يسمح للدولة بأن تتدخل في غرس قيم المواطنة في المواطنين من دون أن يكون هذا التدخل عبارة عن فرض وتسلط أو عبارة عن أدلجة، كانت النتيجة التي توصلت لها هي التالي: أن فرض قيود فاضلة على اختيار الفرد لحياته لا يعني فرض نمط من الحياة عليه. سمت هذا النموذج ب «التربية الديموقراطية»، إذ تجمع بين احترام حرية الأفراد في الوقت نفسه الذي لا تهمش فيه قيم المواطنة، وبهذا الجمع تمنع أي سلطة - سواء كانت دولة أم أسرة - من أن تستبد بتربية الفرد بل تضع حدوداً على كل سلطة، لكنها تنبه أن هذا النموذج الديموقراطي يعاني من مآزقه الخاصة أيضاً. فعلى رغم أنه يقوم على النقاش المستمر والاحترام المتبادل، إلا أن المؤسسة التعليمية لا يمكن أن تتحرر من الفرض والتمييز، فهي حتماً ستقوم بفرض أمر لم يختره المتربون، وهي حتماً لن تعطي الجميع فرصاً متساوية لأن يكونوا مواطنين متساويين. كما قلنا سابقاً: مع كل إنجاب طفل يعني أن هناك شخصاً جديداً في عالمنا، وعندما لا يكون عالمنا مضيافاً للأجيال المقبلة فستنقضه، فبحسب «توماس غفرسون»: كل 19 عاماً وستة أشهر يموت نصف الجيل القديم ويحل محله الجيل الجديد الذي من دونه لا استمرار لعالمنا، ولكنه باستمرار مهدد لنا، لكن يبقى السؤال معلقاً: كيف نربيه على حماية عالمنا من دون أن نفرض عليه ذلك، وكيف نقبله بعالمنا من دون تمييز؟ إن إشكالية التربية والتعليم ليست محصورة في مجالها المتعلق بحماية الحياة، وبالتالي يهتم بتطوير الجانب التي تهيئ الجيل المقبل على المنافسة في سوق العمل، إن إشكاليتهما سياسية، وهي بهذا لا بد من أن تجد حلاً سياسياً أيضاً. * كاتب سعودي. [email protected] @sultaan_1