ضاقت الخيارات المتاحة أمام الحكومة الأردنية، التي اضطرت قبل نحو أسبوعين إلى اتخاذ قرار برفع أسعار المحروقات وليس كما يشاع برفع الدعم عنها، فهذه السلع تفرَض عليها ضريبة متدنية قياساً إلى الدول الأخرى وهذا ما صححته الحكومة، وباستثناء الغاز المستخدم في المنازل، يُباع البنزين والسولار بأسعار قريبة من سعر الكلفة وفي بعض الأحيان تحقق الخزينة إيرادات من بيع البنزين عيار 95 أوكتان. واضطرت حكومة رئيس الوزراء عبدالله النسور إلى اتخاذ هذا القرار لأن عجز الموازنة بلغ حدوداً لم يعد ممكناً الاستمرار فيها، فباتت الخيارات على حد تعبير النسور، إما اللجوء إلى تصحيح الأسعار أو تهديد استقرار الدينار الأردني. وبلغة الأرقام بلغت قيمة العجز الممول من خلال القروض خلال الشهور التسعة الأولى من العام، وفق وزارة المال الأردنية، نحو 3.5 بليون دولار، تشكل نحو 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة والاستمرار فيها يعني وصول مستويات التمويل بالعجز إلى مستويات خطيرة، لذلك جاء الإصرار الحكومي على اتخاذ القرار، على رغم تحفظ الأجهزة الأمنية التي توقعت رد الفعل العنيف. ردود الفعل والتداعيات التي نجمت عنها كانت في جزء منها تكراراً لتجارب سابقة جرى التراجع عنها لاحقاً. ففي حكومة رئيس الوزراء السابق فايز الطراونة، قبل نحو شهرين، اتخِذ قرار مشابه برفع الأسعار، لكن جرى التراجع عنه في اليوم التالي بعد تدخل مباشر من العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، لكن غياب البدائل، وعدم حصول الأردن على أي مساعدات، وشروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لم تتح مجالاً للمناورة. اللافت في رد فعل الشارع الأردني هو عفويته وامتداده في مختلف المناطق، إذ لم ينتظر الأردنيون قبل أن ينزلوا إلى الشارع، معرفة حقائق الموازنة وصعوبة الأوضاع الاقتصادية، بل حتى ينهي رئيس الوزراء تلاوة بيانه المتعلق برفع الأسعار. ولم يكن غضب الشارع مقتصراً على رفع الأسعار، بل عاود تناول الاحتقان السياسي والفساد والظلم الذي يرافق قرارات كهذه في وقت تغيب فيه الرؤية الاقتصادية الشاملة وجدية الإصلاح السياسي. ولم يأتِ القرار جزءاً من حزمة متكاملة تشمل إصلاحات أخرى. لكن الحكومة وعلى رغم رد الفعل العنيف مضت في قرارها، وكرر رئيس الوزراء التأكيد أن التراجع عن القرار هو بمثابة «جريمة سياسية» نظراً إلى تبعاته المنتظرة، وغياب البدائل التقليدية من منح ومساعدات من بعض الدول العربية أو القروض الميسرة التي وعد الأردن بها في بداية العام لكنها لم تتحقق. وهناك رسالتان في القرار والتمسك به من قبل الحكومة: الأولى تتضمن رسالة إلى العالم الخارجي والمؤسسات الدولية حول جدية الأردن في ملف الإصلاح الاقتصادي وإزالة بعض التشوهات، ما سيساعد الأردن في الحصول على خط الائتمان الموعود من صندوق النقد والبالغ نحو 2.8 بليون دولار، والرسالة الثانية محلية تشير إلى تراجع الدولة عن السياسات الأبوية التي تبنتها لعقود. ويبدو أن الحكومة نجحت في تمرير القرار واستعادة الاستقرار وفي الوقت ذاته إظهار قدرتها على اتخاذ بعض القرارات الصعبة، وفي الجانب السلبي تبقى قرارات صعبة كثيرة يجب أن تتخذها الحكومة، مثل رفع أسعار الكهرباء وخفض أشكال أخرى من الدعم تكلف خزينة الدولة نحو ثلاثة بلايين دولار سنوياً. وفي ظل الاحتقان السياسي وأجواء «الربيع العربي»، سيكون من الصعب تمرير هذه القرارات، ويرجَّح عدم اللجوء إلى قرارات كهذه قبل الانتخابات التشريعية المقبلة والمقررة في كانون الثاني (يناير) المقبل. وسيبقى الشارع الأردني متحفزاً بانتظار ما ستقوم به الحكومة على صعيد الإنفاق العام وخفضه، والتخلي عن بعض مظاهر البذخ، وفتح ملفات تتعلق بالإنفاق العام مثل بند نفقات الدفاع والأمن الذي يستحوذ على نحو 30 في المئة من بنود الموازنة ولا يجري التدقيق فيه، وكذلك نفقات التقاعد التي تتزايد باستمرار بسبب «الكرم الزائد» المتعلق بهذا البند. ولاقى قرار العاهل الأردني رد القانون المعدل لقانون التقاعد المدني الذي منح النواب رواتب تقاعدية مدى الحياة، استحساناً من قبل الشارع الأردني الذي اعتبره خطوة أولى في طريق إصلاح النفقات العامة. وسيبقى الأردن أمام تحدي استعادة زخم النمو الاقتصادي وتعبئة موارد القطاع الخاص واجتذاب الاستثمارات الأجنبية التي شكلت على الدوام مصدراً للعملات الأجنبية وإيجاد الوظائف، وهذا يعني صوغ رؤية جديدة للاقتصاد تأخذ في الاعتبار المتغيرات السياسية وتحقيق أساس الاستقرار الدائم، وهذا يتطلب توسيع دائرة المشاركة في صنع القرار، والانتقال إلى مرحلة جديدة تصبح الكفاءة، وليس المطواعية، هي المعيار الذي يقرر من يشغل المناصب الحيوية في الإدارة العامة التي تراجع أداؤها خلال العقود الماضية. وسيكون ضرورياً التفكير كيف يمكن إشراك القيادات السياسية الأساسية لتصبح جزءاً من القرارات المتخذة ورسم السياسات، كي تتحمل مسؤوليتها تجاه الأوضاع بدل الاستمرار بإلقاء اللوم على فئات معينة أوصلت الوضع إلى ما هو عليه، فالخروج من المأزق مسؤولية جماعية. * باحث اقتصادي في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت