تضخمت مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان. باتت تنذر بعواقب وخيمة على استقرار البلد ومستقبله. وصار من واجب اللبنانيين الغيورين على وطنهم، كرئيس كتلة الإصلاح والتغيير النيابية، ميشال عون، التدخل لوضع الأمور في نصابها. فموضوع اللاجئين «وصل إلى درجة من الخطورة لأن الانتشار بات على مختلف الأراضي اللبنانية، وبأعداد كبيرة». وهو طالب الحكومة ب "نشر الأعداد رسمياً» والقوى الأمنية والجيش ب «ضبط السكن على الأراضي اللبنانية». ذلك أن «الخطر على لبنان يأتي من الخارج، وموضوع اللاجئين السوريين يشكل خطراً بسبب الإهمال الذي تقوم به كل الأجهزة الأمنية». البديهي أن ما من دولة ترتاح إلى تدفق لاجئين من دولة مجاورة إلى أراضيها، خصوصاً إذا كان سبب النزوح موضع خلاف في الدولة المضيفة، على غرار ما هو الأمر بالنسبة إلى موقف اللبنانيين من الثورة السورية. فما يجري هناك زاد انقسام اللبنانيين السياسي والطائفي عمقاً على عمق. وفيما تتصاعد الاتهامات المتبادلة بين الفرقاء اللبنانيين والتي لا تفتقر إلى براهين عن التورط في الأحداث السورية، تمويلاً وتسليحاً ومشاركة في القتال، فاقمت حادثة خطف اللبنانيين العائدين من رحلة دينية إلى العراق قرب حلب، تشنج العلاقات المذهبية وهددت ردود الفعل عليها بدفع البلاد إلى جولة جديدة من الاقتتال، بدا أنها انطلقت فعلاً بعد اغتيال اللواء وسام الحسن. من حق عون وغيره، إذاً، التوجه إلى السلطات بضبط تدفق اللاجئين السوريين، حرصاً على السلم الأهلي. ولكن ثمة مفارقة في موقف عون ذاته من الموضوع السوري. فالرجل كان أبدى في مناسبات عدة إعجابه ليس بالنظام السوري وحده بل أيضاً بمنظومة الحريات الدينية والاقتصادية التي تتوافر هناك، مسجلاً تحفظه عن «الكبت السياسي فقط» الذي لا يبدو أنه يحول دون ذهاب الناس إلى المطاعم حيث يأكلون ما شاؤوا من اللحوم. وحدها المادة الثامنة من الدستور السابق تقف مانعاً دون أن تعم الديموقراطية الربوع السورية (للتذكير، فالحديث هذا أذيع في آب - أغسطس الماضي عندما كانت المدن السورية تُدك بالمدفعية والطيران الحربي). المشكلة تكمن في بعض «الكبت السياسي» للنظام وافتقار «المعارضات السورية إلى السيادة والقرار على نفسها» في حين هناك «مشروع حل أممي لن تُهزم فيه سورية ولن يبعد الرئيس بشار الأسد وسيكون حداً فاصلاً بين الأصولية وما تبقى وسيحافظ على الثقافة المشرقية»، على ما يؤكد الجنرال عون في حديث آخر. هكذا، ينهض الجدل العوني: المعارضات تابعة ولا تملك قرارها والأسد سيبقى بفضل قرار أممي، والكبت ستعالجه الثقافة المشرقية الشافية. لكن حجم المؤامرة الدولية والإقليمية الرامية إلى «حماية البترول وخطوط نقله والمصالح الإسرائيلية» يثير قلق عون الذي يحذر من أن «تغيير النظام قد يقضي علينا (المسيحيين اللبنانيين) وعلى لبنان لأن الأنظمة التي ستأتي يرجع تفكيرها إلى القرن الرابع عشر». وبصرف النظر عن السؤال الذي أثير عن علاقة القرن الرابع عشر بأي منعطف تاريخي شهدته المنطقة، فإن ما يقصده الجنرال على الأرجح هو التحذير من وصول الأصولية السنّية إلى الحكم بعد سقوط بشار الأسد. فهذا يساوي فناء المسيحيين في لبنان والذين يحميهم الأسد وعون وحلفاء لهما. وبما أننا في حقل المباحث الجدلية، تتعين هنا ملاحظة التناقض (المحرك لجدل التاريخ، كما قد يضيف البعض) بين «الثقافة المشرقية» وبين «أنظمة يرجع تفكيرها إلى القرن الرابع عشر». صراع حضارات إذاً، هذا الذي يقلق العماد ميشال عون الذي يبخل على مستمعيه بتوضيح الفوارق بين طرفي التناقض هذين، متوقعاً على الأرجح أن يتحلى المستمعون بما يكفي من الثقة به لتجاوز هذه الأسئلة التفصيلية. ذلك أن بوناً شاسعاً يفصل، على ما يبدو، بين الثقافة المشرقية والأصولية الإسلامية السنّية. وهذا يعيد إلى الذاكرة طروحات درج عليها بعض مدارس الفكر العربي الحديث في التمييز بين الفلسفة المشرقية (أو الإشراقية) وبين الفكر الإسلامي التقليدي. وإذا حملنا صورة التناقض الفلسفي وجدلية حماية النظام السوري وتبعية معارضيه، وعدنا إلى أصل الحكاية، إلى عشرات الآلاف من اللاجئين الذين يأتون إلى لبنان هرباً من أهوال الحرب التي يشنها بشّار وأجهزته على المجتمع السوري برمته، ترتسم أمامنا ألوان تزيد في تعقيد الرؤية العونية للمشهد اللبناني. صحيح أن عون لم يطلب تخلي لبنان عن التزاماته الدولية بتقديم الملجأ والعون والمساعدة لكل اللاجئين. وصحيح أنه لم يدعُ إلى طردهم أو إعادتهم إلى بلدهم حيث تنتظرهم أخطار جِسام مؤكدة. لكنه تجاوز كل ذلك ووضع خطاً فاصلاً بين النظام السوري، المدافع عن الأقليات والمهدد المصالح البترولية والإسرائيلية، وبين اللاجئين الذين يتدفقون إلى لبنان. فهؤلاء، وفق الخطاب العوني، لا يمتون بصلة إلى النظام، وعلى السلطات اللبنانية ضبط حركتهم وتقييد نشاطهم إلى الحد الأقصى. والتحالف بين «التيار الوطني الحر» الذي يتزعمه وبين النظام السوري تحالف لا مكان فيه للاجئين والنازحين والمنكوبين بصرف النظر عن انتماء هؤلاء الديني أو الطائفي، بل إن التحالف موجه في واقع الأمر ضد هؤلاء اللاجئين تحديداً الذين اشتم عون ولاءهم للمعارضات التي لا تملك السيادة على نفسها، وحنينهم إلى أنظمة حكم تعود إلى القرن الرابع عشر. في الوسع الزعم أن الأمور أبسط من ذلك في ذهن الجنرال. وهو يرى «سورية» النظام القادر على خدمة أهدافه المحلية التي لا تزيد على الهموم الانتخابية والأوهام الرئاسية المجهضة، لكنه لا يرى «السوريين» بصفتهم شعباً مضطهداً قرر نزع القيود التي تكبله منذ عقود والسير في طلب الحرية. وتشبه الرؤية هذه في الكثير من الوجوه، تلك التي يتبناها حلفاء الجنرال الممانعون، الذين يملأون الدنيا صراخاً دفاعاً عن فلسطين، لكنهم لا يعترفون بالحد الأدنى من الحقوق المدنية والإنسانية للفلسطينيين كبشر لديهم أحلامهم وآمالهم الفردية البسيطة. وكما كان هناك فلسطين القابلة للاستثمار في أسواق السياسة، والفلسطيني الضار الذي يعيق هذا الاستثمار، يظهر أن هناك سورية المجردة والمتخيلة والمفيدة، في الوقت ذاته، والسوريين الضارين الذين يتعين على السلطات الأمنية الالتفات إلى خطرهم التفاتة جدية، على ما يقول الجنرال.