ليس غريباً أن نتلقى إشارات الاغتراب عن عصرنا في أكثر من عمل فني وأدبي، حتى باتت موضوعة الاغتراب مبتذلة لفرط تكرارها الممل. بينما تبدو الحياة المعاصرة شبه غائبة في الكثير من النتاج الإبداعي العراقي والعربي، وإن حضرت فبوصفها كائناً عدوانياً يفترس البراءة والإنسانية، وتبدو مقترنة بكل آثام البشر. وعلى النقيض، فإنك من النادر أن تجد عملاً إبداعياً يحتفي ليس بالحياة فحسب، بل بملامحها المعاصرة، إيقاعات وإشارات ووسائل عيش وإدراك واتصال. الفنان التشكيلي العراقي خالد رحيم وهل، من النوع الذي يبدو نادراً في حياتنا الثقافية، أي النوع الذي يحتفي بالحياة، بل بأعمق ما فيها: الدلالة الإنسانية في حضورها، فضلاً عن تقديم «الإنساني» في سياق معاصر كلياً: فأعمال معرضه «جاز» (غاليري الاندى بالعاصمة الاردنية ويستمر حتى الثاني من الشهر المقبل) تضع المتلقي في فضاء الإشارات المعاصرة، لوناً وطباعة وحركة، ضمن إيقاع منسجم، على رغم كل الفوضى البشرية المطنبة حولنا. خالد رحيم وهل، الذي صاغ أعمال معرضه الجديد حين كان مقيماً في كندا مع مؤسسة «ذا آرتس بروجكت» في أونتاريو، آثر عرض «مقطوعاته» في مكان لطالما احتضنه لأكثر من عقد من الزمن، بل إن «غاليري الاندى» ذاته كان مشغلاً وإطلالة خاصة بالنسبة إليه (1999-2003 مصمم طباعي ومستشار فني) فضلاً عن مشاركات واسعة في معارض للرسم والغرافيك. أعمال معرضه الجديد ليست مجرد اتصال بموسيقى الجاز، بل هي نوع من الاحتفاء بالإنسان المعاصر في تجلياته الآدمية. وهي تكاد تعكس الفكرة التي نسج منها موسيقي الجاز الأميركي، تيد ناش، حين أصدر قبل سنوات أسطوانة «بورتريت إن سافن شيدز» (لوحة بسبعة ظلال) وهي مقاربة غنية الألحان والأفكار لملامح الحياة والأساليب المختلفة للفنانين التشكيليين مونيه ودالي وماتيس وبيكاسو وفان غوخ وشاغال وبولوك. وبقدر ما تمكن المؤلف وعازف البوق المولود في لوس انجليس، من صوغ ألحان مشعة بحيوية الجاز وتدفقه، تمكن أيضاً من إيجاد «المعادل الموسيقي» لأعمال اولئك التشكيليين الكبار، فلم تكن مقطوعة «ماتيس» إلا دالة عليه، لجهة الرشاقة والإيقاع الراقص، بينما كانت مقطوعة «بولوك» تشبه فنانها تماماً، في لوحاته النافرة الألوان وضربات ريشته الحادة، فجاءت الأنغام ضربات قصيرة لا تخلو من حدة على البيانو، ونداءات مجروحة من الساكسوفون. في معرض العراقي خالد رحيم وهل، يبدو الأمر معكوساً، فعبر الرسم يمكن الإنصات إلى أنغام الأبواق الجهيرة، والضربات الحادة والشجية على البيانو، كما يمكن للمتلقي أن يقيم صلة بين أنغام الكونترباص وصورة عازفه المتجسدة أمامه في اللوحة. وما بدا صعباً على الأميركي ناش، هو أن الصلة التي حاول إقامتها بين سبعة فنانين معروفين وسبع مقطوعات موسيقية تستحضرهم نغمياً، تتصل بأسماء قوية التأثير بين جمهور المتلقين للأعمال الفنية الرفيعة، وان من سيستمع إلى اللحن، سيستدعي على الفور التأثير البصري لعمل بيكاسو مثلاً أو شاغال. وعلى رغم صعوبة هذا التحدي، إلا أن المؤلف تمكن من «قراءة» الفنانين وأساليبهم عبر استنطاق روحيتهم في عمل نغمي زاده غنى ورهافة أداء يقارب المتعة الغامرة لأوركسترا جاز كالتي يقودها مارساليس. في الاتجاه ذاته، ما بدا صعباً على خالد رحيم وهل، هو أن المتلقي للوحته قد لا يتصل بالجانب الآخر المضمر في الألوان والخطوط: أي الأنغام التي احتفى بها رسماً وطباعة وعملاً ضوئياً. لكن تلك الصعوبة تحولت نوعاً من البساطة الغامرة التي جاءت عليها أعمال صاحب التجارب المهمة في الطباعة الفنية، باستخدام تقنيات رقمية متطورة، خرجت سحرية الألوان، ونضارتها معادل بهيّ لما يمكن لأنغام الجاز أن تتركه في المتلقي من تأثير أنيس وناعم، بل من تحفيز على تفكير لا يخضع بالضرورة إلى نسق تقليدي، بل يتحرّر ارتجالاً. معرض «جاز» لخالد رحيم وهل مقترح جديد كلياً، ليس لإقامة الصلة بين الفن والحياة فحسب، بل للاحتفاء بالجانب الإنساني في هذه الحياة والذي يكاد يتوارى لفرط العناءات والهزائم وغلبة نبرة الهدم.