ان يكتب موسيقيون ألحاناً تحاكي أعمالاً تشكيلية أو تتماهى معها، لا يبدو أمراً جديداً، أما ان يصوغ مؤلف موسيقي ملامح تشكيليين شكلوا ثروة تعبيرية إنسانية، عبر الحان الجاز، فهذا أمر لافت تمكن منه المؤلف الموسيقي وعازف الساكسفون الاميركي تيد ناش عبر اسطوانته الصادرة حديثاً «بورتريت إن سافن شيدز» أو «بورتريت في سبعة ظلال». الاسطوانة الجديدة نفذها المؤلف ناش مع أوركسترا الجاز في «لينكولن سنتر» بقيادة الموهوب دائماً وينتون مارساليس، وهي مقاربة غنية الألحان والأفكار للوحات وملامح حياة وأساليب: مونيه، دالي، ماتيس، بيكاسو، فان غوغ، شاغال، وبولوك. وبقدر ما تمكن المؤلف وعازف البوق المولود في لوس انجلوس من صوغ ألحان مشعة بحيوية الجاز وتدفقه، تمكن ايضاً من إيجاد «المعادل الموسيقي» لأعمال أولئك التشكيليين الكبار، فلم تكن مقطوعة «ماتيس» إلا دالة عليه، لجهة الرشاقة والإيقاع الراقص بينما كانت مقطوعة «بولوك» تشبه فنانها تماماً في لوحاته النافرة الألوان وضربات ريشته الحادة، فجاءت الأنغام ضربات قصيرة لا تخلو من حدة على البيانو، ونداءات مجروحة من الساكسفون. وما بدا صعباً على ناش هو ان الصلة التي حاول إقامتها بين سبعة فنانين معروفين وسبع مقطوعات موسيقية تستحضرهم نغمياً، تتصل بأسماء قوية التأثير بين جمهور المتلقين للأعمال الفنية الرفيعة، وأن من يستمع الى اللحن يستدعي على الفور التأثير البصري لعمل بيكاسو مثلاً أو شاغال. وعلى رغم صعوبة هذا التحدي، إلا ان المؤلف تمكن من ان يقرأ الفنانين وأساليبهم عبر استنطاق روحيتهم في عمل نغمي زاده غنى ورهافة أداء يقارب المتعة الغامرة لأوركسترا جاز كالتي يقودها مارساليس. المستمع أعلم بالأساليب والملامح التي تكوّن روح عمل «مونيه» مثلاً، إذ يشعر حين يستمع الى المقطوعة التي حملت اسمه بنسيم الهواء منبعثاً وبحركة أمواج تتدفق من خلال الأنغام التي ترسلها آلة الترومبون، مثلما تحيله الأنغام الحادة الطويلة الزاعقة أحياناً في مقطوعة «دالي» الى ساعات سلفادور دالي المتدلية، بينما اختار المؤلف تيد ناش الغناء فضلاً عن الميلودي المشبع بالشجن للتعبير عن روح أعمال الرسام الهولندي التاعس فان غوغ. وفي مقطوعته «بيكاسو»، كتب ناش لحناً طروباً في إيقاع لا يخلو من انكسارات حادة مستحضراً بتمكن روح «التكعيبية»، فيما كانت انغام الاكورديون التي تشجيها انكسارات الكمان لعازفين مشردين، لكنهم موهوبون، دالة بما يكفي على روحية لوحات مارك شاغال. وما يؤكد الغنى الفكري لمؤلف الاسطوانة، فهمه العميق لعناصر الاتصال بين موسيقى الجاز والأساليب التشكيلية. فالمؤلف ناش ينظر الى بيكاسو بوصفه نوعاً من مايلز ديفيس في موسيقى الجاز. ففي حين كان الاول مسؤولاً عن تطوير حركات فنية مختلفة (التكعيبية) مثلاً، فإن مايلز كان انتج مسارات لحنية في موسيقى الجاز (بيبوب، وفيوشن مثلاً). وإذا كان في الرسم ثمة انطباعية، فثمة معادل لها بحسب تيد ناش وهي موسيقى «البوب»، وإذا كانت ثمة تجريدية فثمة موسيقى «البلوز» مقابل لها. مع «بورتريه في سبعة ظلال»، يمكننا سماع سبع قصص عن هؤلاء الرسامين الكبار، ليس من خلال الكلمات، كما هي الحال في وصف أعمالهم وقد توسطت المتاحف، ولكن من خلال الموسيقى. والاختلاف في أنماط الرسامين، انعكس غنى تعبيرياً في كل الحركات السبع للاسطوانة التي أقامت حقاً «المعادل الموسيقي» للوحات الفنانين، وبما يجعل أعمالهم ذات روح جديدة وألوان نضرة وتأثير اكثر رشاقة ورقّة.