في التقرير الأخير لوكالة الطاقة الدولية والذي توقع أن تتبوأ الولاياتالمتحدة المركز الأول في إنتاج النفط بعد سنوات، متفوقة بذلك على السعودية وروسيا، أمور مهمة لم تنل ما تستحق من اهتمام. فللمرة الأولى تبنّت الوكالة موقف السعودية الذي يؤكد أن الطاقة الإنتاجية للمملكة لن ترتفع إلى 15 مليون برميل يومياً، بل ستبقى بحدود 12.5 مليون. وللمرة الأولى ركزت الوكالة على «عطش» الطاقة إلى الماء وأثر القطاع في نوعية الماء وتوافره. وثمة تفاؤل مفرط في تقديرات الوكالة لإنتاج العراق، خصوصاً في ظل الأوضاع في سورية والتي تحد من قدرات تصدير النفط العراقي. التوقعات بزيادة الإنتاج الأميركي لم تفاجئ المتخصصين، خصوصاً الذين كتبوا في هذا الموضوع، ومنهم كاتب هذه السطور ومقالاته في «الحياة» خير شاهد. فإنتاج الغاز في الولاياتالمتحدة كان في انخفاض، ووارداتها كانت في ارتفاع، لذلك استُثمِرت مبالغ ضخمة في بناء محطات لاستيراد الغاز المسال. أما الآن فزاد إنتاج الغاز في شكل هائل، وانخفضت الواردات في شكل كبير، وبدأت الشركات بتحويل محطات استيراد الغاز إلى محطات للتصدير. وكانت صناعة البتروكيماويات الأميركية تحتضر بسبب ندرة الغاز وارتفاع أسعاره، وها هي الآن تشهد انتعاشاً بسبب وفرة الغاز وانخفاض أسعاره، الأمر الذي يهدد البتروكيماويات السعودية إذا توقف التسعير الحكومي للغاز بأقل من كلفته. أما في مجال النفط، فكان الإنتاج في انخفاض مستمر منذ بداية السبعينات، إلا أنه ازداد في شكل كبير في السنتين الأخيرتين. وكانت مشكلة السياسيين وصانعي القرار في الولاياتالمتحدة في السنوات الماضية كيفية خفض اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط عموماً، ومن دول الخليج خصوصاً. وها هي الأمور تنقلب رأساً على عقب، ويرتفع إنتاج النفط الأميركي، وينخفض استهلاك الأميركيين من النفط، وتنخفض الواردات كثيراً. والآن يحكى عن تصدير النفط الأميركي. ونظراً إلى الأخطاء في النقل والفهم، وأخطاء في الترجمة من قبل وسائل الإعلام، وتلاعب في الكلام من قبل وكالة الطاقة، لا بد من توضيح توقعات الوكالة: 1- عند الحديث عن «مصدّر صافي للنفط» بحلول 2030 يتحدّث التقرير عن أميركا الشمالية ككل، وليس الولاياتالمتحدة فقط. 2- ذكِر أن الوكالة تتوقع أن تصبح الولاياتالمتحدة مصدراً صافياً للنفط، لكن التقرير لم يورد ذلك بل أكد في إطار الطاقة ككل، أن الولاياتالمتحدة ستصبح مصدّراً صافياً «للطاقة». 3- جرى العرف على استخدام كلمة «النفط» لتشمل النفط الخام والمكثفات والسوائل الغازية. لذلك من الخطأ القول إن إنتاج الولاياتالمتحدة من النفط «الخام» سيكون أكبر من إنتاج السعودية أو روسيا. والوكالة توقعت أن مجموع إنتاج النفط الخام والمكثفات والسوائل الغازية سيكون أكبر من إنتاج النفط «الخام» للسعودية أو روسيا. لكن لو أضفنا السوائل الغازية والمكثفات لإنتاج السعودية وروسيا لوجدنا أن ترتيب الولاياتالمتحدة عالمياً لجهة الإنتاج سيبقى الثالث، إلا أن الفارق بينها وبين السعودية وروسيا انخفض في شكل كبير. 4- يبالغ التقرير في تقدير الزيادة في إنتاج الولاياتالمتحدة بسبب تجاهله للقوانين البيئية التي تطبقها حكومة الرئيس باراك أوباما حالياً، والتي رفعت التكاليف في شكل كبير. وكما أشار كاتب هذه السطور في مقالات سابقة فالآثار السياسية، خصوصاً في الشرق الأوسط، ستكون بسيطة، وستقتصر على زيادة الخيارات أمام الحكومة الأميركية في التعامل مع دول معينة مثل إيران. أما الآثار الاقتصادية فعديدة لأنها ستغير من اتجاهات تجارة النفط العالمية وسترفع قيمة الدولار، ما سيؤدي إلى تغيرات مهمة حول العالم. ولن تؤثر ثورة النفط في الولاياتالمتحدة في السعودية في شكل مباشر لسبب بسيط وهو أن غالبية الزيادة من حقول باكان وإيغل فورد هي من النوع الخفيف، والسعودية تصدر الأنواع الأثقل إلى الولاياتالمتحدة. وتفسّر هذه الفروق سبب الانخفاض الكبير في واردات النفط الأميركية من نيجيريا والجزائر وزيادتها من السعودية. إلا أن أكبر خطر تواجهه السعودية وبقية دول الخليج والعراق هو تصدير النفط الكندي الثقيل من غرب كندا إلى الدول الآسيوية، فهو سينافس النفط الخليجي بشدة في هذه الأسواق. وستجبر هذه التطورات دول الخليج على منافسة النفط الكندي في خليج المكسيك، في وقت ستسمح الحكومة الأميركية لشركات النفط بتصدير النفط الأميركي الخام الخفيف. وستنتج من ذلك منافسة حقيقية في أسواق النفط العالمية فترتفع أسعار الخامات الأميركية ومشتقاتها، فيما ستنخفض الأسعار عالمياً نوعاً ما. وستتلاشى الفروق بين الأسعار، خصوصاً في خليج المكسيك، حيث تقتصر على النوعية وتكاليف النقل، الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش كبير في صناعة التكرير الأميركية. إن توقعات وكالة الطاقة في ما يتعلق بإنتاج الولاياتالمتحدة، إن صحت، لن تؤثّر في أسواق النفط السعودية، بل قد تستفيد السعودية من ارتفاع الدولار، ومن ثم الريال الذي يرتبط به. لكن الخطر الذي يواجهه النفط السعودي هو منافسة النفط الكندي له في الأسواق الآسيوية، ومنافسة البتروكيماويات الأميركية للبتروكيماويات السعودية في حال رفعَت السعودية أسعار الغاز. * اقتصادي في شركة «إن جي بي» الأميركية