كيف لعرضٍ مسرحيّ سوري تقديم أحوال بلاده، اليوم، في نصف ساعة؟ ولو سلّمنا بأنّ «الشيطان يكمن في التفاصيل»، فإن مسرحة التفاصيل الدمشقية تتطلب الكثير من الخيال والألم. سوى أن غزوان قهوجي، المخرج السوري الذي شارك أخيراً في مهرجان لمسرح الشباب في بغداد، فضّلَ أن يصوّر مدينته صوفياً وهو يستنجد بابن عربي. «راقص على الطريقة المولوية يحتضر أمام قبر الفيلسوف محيي الدين بن عربي... في هذا المشهد يستعير قهوجي، في مسرحيته «مولانا» التي كتبتها ربى طعمة، أجواء روحانية. ويبدو أن رقص «مؤمنين بالطريقة الصوفية» في دائرة حول إمامهم، من وجهة نظر قهوجي وفرقته المسرحية، هو الطريقة الأنسب لتصوير دمشق التي يدور حولها المؤمنون باكين، كما لو كانت تدفع، رويداً رويداً، إلى الحافة. ويصرخ الراقص الذي يوشك على الموت طالباً نجدة ابن عربي. قبل العرض، وبمجرد أن أدرجت مسرحية «مولانا» في لوحة إعلان المسرح الوطني، حيث أُقيم المهرجان بين 6 و13 من الشهر الجاري، بدا العمل مثيراً للانتباه والفضول حول ما قد يقدمه عمل سوري في بغداد، وفي زمن الثورة. وبصرف النظر عما قد يقدّره فنان سوري لما يجري في بلاده، فقد أضرّ بالمسرحية ارتفاع سقف التوقعات لدى الجمهور. يمكن القول إن العرض مشغول بنصٍّ شعري، لكن المتلقي لم يكن مستعداً لمزيد من الرمزية. وقد نفترض، قياساً بتوقعات الجمهور، أن المباشرة التي لا تميل إليها غالبية المسرحيين قد تكون نافعة في مشهدٍ سوريّ تبدو المباشرة فيه أبلغ رمزيةً من أي نمط آخر. وقهوجي من المخرجين السوريين الذين يتفاعلون مع اليومي بحساسية عالية. وكبقية الفنانين المشتغلين على التصوف، يجعل من الموت والولادة محوراً لتكثيف الأفكار أو التعبير عنها. وقد يبدو ذلك، للمتلقي، تورية أو هروباً. ففي مدونته، كتب، قبل أيام من عرض المسرحية في بغداد: «قبل انتحاري بلحظة فكرت: ماذا سيكتبون في شهادة الوفاة؟ (...) سينقشون على شاهدة القبر فاتحة واسماً وتاريخاً... ما هذا؟». اعتمد قهوجي وكاتبة النص على الترميز، لكن كثيرين بين الجمهور المتحفز لمسرح سوري يقرّب مشهد الثورة إليه، شعروا بأن العمل كان خائفاً، كما لو أن العرض يقام في دمشق وأفراد الأمن السوري يراقبون كل حركة فيه. رفض قهوجي، في أحاديث مع صحافيين ونقاد، هذا التصوّر، بدعوى أنه فضّلَ الصوفية والتعبير عن مشهد سورية وثورتها من زاوية روحانية. وهو لا يحبّذ أن يرى البعض الفكرة الصوفية عاجزة عن احتواء الأحداث في بلاده وفي المسرح. وقد يبدو هذا صعباً في حال النص الصوفي الذي يجرد نفسه من الدلالات الحسية، كالحب والعشق، خصوصاً أنه يبكي سورية التي «يحبها». وقد يكون «مولانا» وقع في فخ القناع الصوفي، فابتعد عن شوق الجمهور إلى «التواصل» مع سورية الآن، على حد تعبير ناقد عراقي حضر العرض. لكن المخرج بدا أكثر مباشرة في التعبير عن مسرح سورية. وبينما اجتهدت «مولانا» في تورية الربيع العربي، أو معالجته صوفياً عبر تيمة الموت، فإن الخوف كان تيمة لا تحتمل المجاز، إذ كتب قهوجي على صفحته في «فايسبوك» : «كنت أعتقد جازماً أني لن أعود إلى الشام (...)، ها أنا غادرتها مصطحباً عائلتي وأعلم أن بيتي يحترق وأهلي يذبحون (...). لكني، وحين رفضت التصريح لموفد التلفزيون السوري إلى بغداد، قلت له أين أنتم، أين كنتم؟ أجابني: نحن موجودون هنا وفي كل مكان، تأكدت حينها أني سأعود فور انتهاء العرض، أني لا أزال مجرد سمكة». ربما كانت «مولانا» لتدمغ لقهوجي بطاقة هرب، لكن فكرة الموت التي استعارها بدلالة صوفية أعادته إلى دمشق، حيث الموت لا يتحمل الاستعارات.