تتمتّع أفريقيا، رغم ما تعانيه من أوبئة وكوارث، بجاذبيّة خاصّة وسحر خلّاب. تفتن زائريها بكلّ ما تنطوي عليه من براءة وأسرار ومباهج، تصير في كثير من الأحيان نقطة تحوّل في حياتهم، فلا تستقيم لهم حال دون العودة إلى ربوعها وغاباتها، تشكّل منعطفاً يغيّر تركيبتهم النفسيّة والجسديّة، تغدو موضوع الشغف الأبرز، ومصدر الولع والإغراء لهم. تتسرّب من دون تخطيط ودراسة إلى مساماتهم وأرواحهم، يتماهون مع طبيعتها، يحاولون تكييف شراستها، وترويض جموحها الطبيعيّ وتخفيف افتراسها للغرباء. وعدا عمّا توصَف به من كرم وسخاء، وما ترقد عليه من خزّان للأرزاق والنعم، فإنّها تجثم على خزّان لا ينضب من الآلام. يحاول الكنديّ ميشيل لوكلير مقاربة هذه الفكرة من زوايا مختلفة في روايته «نزهة في أفريقيا» (الحصاد، دمشق، ترجمة محمّد عبدو النجّاري). يعالج جوانب من التغيير الذي تحدثه زيارة خاطفة إلى أفريقيا في نفس بطله شارل ف. الذي كان يعمل في إحدى الوكالات الإنسانيّة الدوليّة. وشارل ف. رجل فرنسيّ متزوّج، يقوم بجولة في أفريقيا، يمكث في ساحل العاج مدّة قصيرة، يستاء من الأجواء الحارقة والأوساخ المنتشرة والأوبئة المتفشّية، يلازم غرفته المكيّفة ولا يخرج إلاّ في حالات نادرة، يتعرّف إلى فاتو، وهي فتاة أفريقيّة من المنطقة، تربطه بها علاقة عابرة، يقضي معها أوقاته، ولا يولي الأمر أهمّيّة كبيرة، ثمّ يغادر إلى أعماله وحياته الأوروبيّة بعيداً من لهيب أفريقيا وجنونها وحروبها وجوعها، تعود حياته إلى وتيرتها الهادئة السابقة، يعود إلى زوجته لوسي، ويظنّ أنّه يعيش معها السعادة، لأنّهما قد اتّفقا على عدم الإنجاب. يقسّم لوكلير روايته إلى ثلاثة أقسام: النداء، العودة، الاغتراب. يمثّل كلّ قسم حلقة من حلقات الرواية المتكاملة. يبدأ القسم الأوّل بمفاجأة شارل ف. في مكتبه وهو يلهج بلازمة يكرّرها وهي أنّه قد أصبح أباً، ثمّ تصوير شارل ف. وهو يمارس حياته الروتينيّة في مكتبه، ويكون قد مرّ على عودته من أفريقيا عقد من الزمن، بالتالي يكون شارل ف. قد نسي ساحل العاج وما فيها، يتفاجأ برسالة من هناك، تخبره فاتو أنّ ابنته تنتظره. تصعقه المفاجأة التي يعجز عن تفسير وقعها عليه، يكتشف أنّه بات أباً لفتاة أفريقيّة، وهو الذي لم يطق أفريقيا للحظة، ولا تخيّل نفسه أباً. يلبّي النداء ويعود إلى أفريقيا، وبعد سلسلة من التنقّلات يستدلّ إلى قرية فاتو، يلتقي بها، تنتابه حالة من الحنين والاشتياق إليها، تخبره عن إمكانيّة لقائه بابنته في اليوم التالي، يكون اللقاء كئيباً، إذ يرى فتاة فاحمة السواد، يرتاب بأنّ تكون ابنته، يقضي معها أيّاماً، ثمّ يعود إلى باريس. في تلك الأثناء يقوم مع فاتو وابنتها بنزهات في بعض المناطق، يتعرّضون لحادث سيّارة، يسعفون الفتاة التي تدمى جبهتها، يحتفظ شارل ف. بمنديل الدم بحوزته، يبيّت فحص دمها حتّى يطمئنّ أنّها ابنته أو لا. تتغيّر وتيرة حياته الهادئة، تتغيّر تصرّفاته وأفعاله، تنتابه الأشواق إلى أفريقيا، يبدأ بارتداء الأزياء الأفريقيّة التي تكون مدعاة للسخرية من قبل المحيطين به، يحلم بأفريقيا ليل نهار، يقرّر فجأة، بعد إجرائه تحليل الدم واختبار الحمض النوويّ، العودة إلى ساحل العاج، يخبر لوسي أنّ هناك مهمّة مستعجلة عليه إنجازها، يسافر على جناح السرعة إلى فاتو وييري، يكون الخبر المدوّي بالنسبة الى فاتو كما كان وقعه الصادم على شارل ف.، حيث ييري مصابة بالإيدز الذي يكون قد انتقل إليها عبر أدوات طبّية غير ملوّثة نقلت إليها الجرثومة. حينذاك يكون الانهيار الكلّيّ لشارل وفاتو معاً، يحاولان البحث عن سبل لإسعاف ييري وإنقاذها، يتّفقان على الذهاب إلى فرنسا للمعالجة هناك، يستعجل شارل ف. باستكمال الأوراق، يأخذ فاتو وييري إلى منزله الريفيّ، ثمّ يعودون المشفى لإجراء الاختبارات والمعالجات المفترضة. وبعد سلسلة من الإجراءات الطبّيّة وكمّيّات من العقاقير، تكون العاصفة التالية حين اكتشاف لوسي أنّ لزوجها ابنة أفريقيّة، تطرد لوسي فاتو وييري من المنزل في غياب شارل ف.، ما يتسبّب بانتهاء العلاقة بينهما حين يعود. يؤثر شارل ف. اختيار فاتو وييري على لوسي، لكنّ فاتو تقرّر العودة إلى وطنها، تفضّل أن تموت ابنتها في ربوع وطنها على أن تذوي في الغربة الصقيعيّة المتحجّرة. تقول له: «أموت في بلدي من الإيدز، أمّا هنا فلا يستطيع أحد أن يشفيني من بلدي». يلتحق شارل ف. بفاتو وييري، يترك أعماله كلّها ويفضّل العيش معهما، يجاهد للحصول على أدوية لمعالجة ييري، يخبره أحد السماسرة بإمكانيّة تحصيل الأدوية في بلدة حدوديّة في مالي، يسارع بالذهاب مع صديقه الأفريقيّ مصطفى إلى هناك، يلتقي بالتاجر المهرّب آمادو؛ الذي يستغلّ حاجته ويبيعه الأدوية بسعر خياليّ، يرضخ شارل ف. لابتزازه، يعود والأدوية معه، لكنّ الفجيعة تكون بتدهور حال ييري بعد استقرار قصير، ثمّ يكون الاكتشاف الآخر حين يخبره الطبيب أنّها كانت تتعاطى عقاقير مغشوشة. يخلّف موت ابنته ييري مأساة كبرى له. يسعى إلى الانتقام مّمن تسبّب بذلك، يشتري سلاحاً ويذهب برفقة مصطفى إلى مالي، يقتل آمادو الجشع ثمّ يعود إلى فرنسا. بعد أن يحظى بحبّ فاتو الأبديّ وبعد أن تكون أفريقيا قد عشّشت في روحه بشكل نهائيّ. يكتشف أنّه لم يضلّ فوق طرقات أفريقيا وفي مفازاتها، إنّما في داخل نفسه، حيث نخسته أفريقيا رغماً عنه، كما لو أنّها ألقت حصاة في عمق الظلمات. يعيش شارل ف. حالاً من الاغتراب القاتل، لا تفارقه صورة ابنته، تفجعه مشاعر الأبوّة التي كان يتهرّب منها في ما سبق، يكتشف عمق مأساته، يرأف لحال فاتو وييري، يقتله شوقه إليهما، وفي لحظة اهتياج وشوق وجنون وتشظٍّ، يُخرج مسدّساً كان يخفيه في منزله الريفيّ، ووسط مهاجمة ذكرياته وتداعي الصور المشتركة مع ابنته وفاتو، يناقش تلك الصور الذهنيّة المجتاحة، يخبرها عن عشقه لأفريقيا، يفنّد الأقاويل التي كانت تنال من فاتو وييري وتصفه أنّه كاره لأفريقيا. أو أنّ ييري خطيئة رجل أبيض وامرأة سوداء. تخرج رصاصة من فوّهة المسدّس، تدمي قلبه، تختلط دماؤه بدموعه، أحلامه بكوابيسه، ماضيه بحاضره، يتصوّر نفسه في سعادة مع ابنته. يسافر إليها. ينحاز لحياته الأفريقيّة. يقتل جانبه الآخر ليحيي الأفريقيّ فيه. يتفانى في حبّه الأفريقيّ ويتلاشى من أجله. يحبّها حتّى العبادة والموت. تمنح أفريقيا شارل ف. كلّ شيء ثمّ تنزع منه مِنحها شيئاً فشيئاً، تغيّره تغييراً كاملاً، تتكفّل نزهة قصيرة مُفترضة بزرع بذرة العشق اللانهائيّ في قلبه وروحه، يشعر بآلام الأفريقيّين وسط طقوسهم وعاداتهم، يعيش معهم السعادة والبهجة، يكتشف معاني جديدة لحياته، يتعرّف إلى مشاعر صادقة لم يكن يظنّ بوجودها، يعيش أبوّة تسرَق منه، وعشقاً لا يكتمل. يتعرّف إلى المعاني الحقيقيّة للأشياء، يجد العظمة والسموّ في الإيثار الذي بات يُنظَر إليه في العالم المعاصر على أنّه غباء أو سذاجة. يختلف أفريقيّ لوكلير عن أفريقيّ الروائيّ لوكلوزيو في روايته «الأفريقيّ»، من بعض الجوانب الشكليّة والظروف التاريخيّة، لكنّه يتطابق معه من جهة تأثير أفريقيا الكبير عليه. قدّم كلاهما أفريقيا الحقيقيّة الرازحة تحت وطأة الأمراض والحروب والجوع والجهل، أفريقيا المتوحّشة وشديدة الإنسانيّة في آن. يؤكّد ميشيل لوكلير أنّ بإمكان الروابط الإنسانيّة من أبوّة وحبّ وشغف أن تعيد ترتيب العلاقة بين المُستعمِر والمُستعمَر، وأنّه يمكن بناء علاقة سليمة تكفل حفظ اعتبار الطرفين، وأنّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. شارل ف. الذي كان يساعد على إنقاذ الأفارقة من الجوع والمرض، يندهش من الجوع السافر لديه. تعيد الأبوّة المسلوبة والعشق الأفريقيّ إليه اعتباره وتروي ظمأه، تساعده أفريقيا على اكتشاف ذاته، تسعفه أفريقيا بمنح قيمة لحياته. النزهة القصيرة المفترضة تغدو رحلة عمره الأخيرة. يخلص لقول سيمون ويل التي مهّد بها لروايته:« يودّ الإنسان أن يكون أنانيّاً ولا يستطيع. وهنا تكمن سمة شقائه الأكثر إدهاشاً، وينبوع رفعته». كما يؤكّد لوكلير أنّ دخول حرم أفريقيا لا يكون نزهة عابرة ولا سياحة ترفيهيّة أو إجازة موقّتة، إنّما تكون أفريقيا النبع الجارف والبركان المدمّر الباني معاً.