لم تنتهِ الحرب النفسية، ونوايا الردع المتبادلة، التي تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، فكلما قيل إن الأمور وصلت أو توشك أن تصل إلى خواتيمها، أعيدت إلى مربعها الأول، من حيث قدرة الضخ الإعلامي أو الاستخباراتي على نشر الكثير من التقارير التي يصعب القطع بمدى دقتها أو صحتها. وفي هذا الصدد، قال معدو تقرير صدر عن «معهد العلوم والأمن الدولي»، إن طهران حققت تقدماً في جهود تخصيب اليورانيوم، إلا أن الولاياتالمتحدة ومفتشي الأممالمتحدة سيكون بوسعهم رصد أي محاولة لتحقيق «اختراق»، أقله في الوقت الحالي. جاء التقرير في شكل عام متوافقاً مع موقف الحكومة الأميركية في الولاية الأولى لأوباما، القائم على أن إيران وبمجرد أن تتخذ القرار بتصنيع قنبلة ذرية، فإنها تحتاج إلى أشهر فقط لتأمين الكمية اللازمة من اليورانيوم المخصب على مستوى عسكري، ثم إلى بضعة أشهر أخرى لصنع السلاح. ويؤكد هذا ما كان أدلى به لوكالة «فرانس برس» الشهر الماضي ديفيد أولبرايت أحد معدي التقرير، ومن أبرز الخبراء حول البرنامج النووي الإيراني. صرح أولبرايت أن إيران وبمجرد أن تؤمن الكمية اللازمة من اليورانيوم العالي التخصيب، ستكون في حاجة إلى ثمانية أو عشرة اشهر لإنتاج سلاح نووي. أما وزير الدفاع ليون بانيتا، فقد صرح في 11 أيلول (سبتمبر) أن الولاياتالمتحدة أمامها عام تقريباً للتحرك في حال قررت إيران المضي قدماً في تصنيع سلاح نووي. وعلى رغم خضوع الولاياتالمتحدة لضغوط من إسرائيل، لتحديد مهلة لتدخل عسكري، إلا أنها تفضل في الوقت الحالي اعتماد سياسة تشديد العقوبات لإرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات. وفي هذا الصدد يشير التقرير إلى أنه «في حال جمعت إيران ما يكفي من اليورانيوم المخصب على مستوى عسكري، فإن عملية التصنيع اللاحقة قد لا يمكن رصدها إلا بعد أن تقوم إيران بتجربة تحت الأرض، أو أن تكشف عن امتلاكها للسلاح النووي». ليختتم بالقول إن «الاستراتيجية الأفضل للحؤول دون امتلاك إيران الأسلحة النووية، هي منعها من تخزين ما يكفي من المواد النووية». في المقلب الآخر، كشف الموقع الإلكتروني الإسرائيلي «واللا» النقاب عن أن مسؤولين في الجانب الإسرائيلي أجروا محادثات سرية في أوائل شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري في العاصمة البلجيكية بروكسيل مع مسؤولين إيرانيين حول نزع الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. من بين المشاركين فيها عن الجانب الإسرائيلي نائب مدير وزارة الخارجية للشؤون الاستراتيجية، وعن الجانب الإيراني نائب وزير الخارجية السابق، مشيراً إلى أن المحادثات كانت بغطاء من الاتحاد الأوروبي، في حين تعهد المشاركون بعدم الإشارة إلى أن هناك محادثات في شأن السلاح النووي؛ وهذه هي المرة الأولى التي تجرى بمشاركة إسرائيلية وإيرانية معاً، بعد سنوات على إجراء محادثات مشابهة في القاهرة برعاية هيئة غير حكومية بحضور كل من وزير الخارجية الياباني والأسترالي السابقين. في السياق ذاته قال الجنرال عاموس يدلين، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في الجيش الإسرائيلي ورئيس مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، في دراسةٍ أعدها مع الباحث أفنير غولوب، إنه على رغم من أن النبأ الذي أوردته أخيراً صحيفة «نيويورك تايمز» حول مفاوضات سرية بين الطرفين لحل أزمة الملف النووي الإيراني، تم نفيه من البيت الأبيض ومن وزير الخارجية الإيراني، يتحتم على الجميع أنْ يأخذ على محمل الجد أقوال الناطق بلسان الرئيس أوباما، بأن الولاياتالمتحدة على استعداد للبدء في مفاوضات مباشرة مع إيران، هناك الكثير من المصادر الإعلامية تتوقعها خلال الولاية الثانية لأوباما...». وشدد الباحثان على أن الهدف من الدراسة التأكيد أن المفاوضات المباشرة بين طهرانوواشنطن ليس بالضرورة خطوة سلبية، بل على العكس، فإنها تحمل في طياتها الكثير من الفرص لإسرائيل، إن كان بانتهاء المفاوضات إلى الفشل أو إلى النجاح. علاوة على أن استعداد الإيرانيين الدخول في مفاوضات مباشرة مع الأميركيين، إنما تؤشر إلى توجهين من الأهمية بمكان التطرق إليهما: الأول جدوى العقوبات، وما إذا كان الخبر صحيحاً حول موافقة طهران على التفاوض، فإن ذلك يعتبر تحولاً كبيراً في السياسة الإيرانية، بينما كانت إيران حتى فترة قصيرة، ترفض بشدة المفاوضات الثنائية مع أميركا حول الملف النووي، وذلك على رغم الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية التي مورست على صناع القرار في إيران، وبالتالي فإن التراجع الإيراني، يؤكد أن العقوبات المفروضة على طهران بدأت تؤتي ثمارها، وأن إيران بصدد تغيير دراماتيكي وحقيقي في سياستها، ولكن، ووفق الدراسة، فإن هذا التغيير ليس كافياً، على رغم أنه، من الناحية الأخرى يؤكد وجود تحوّلٍ في الشعور بالأمن، وهو الأمر الذي درجت طهران على إظهاره طوال السنوات الماضية، كما أن هذا التحول يُعزز الفرصة لتشديد العقوبات أكثر على إيران، على حد قول يدلين وغولوب. مزية المفاوضات المباشرة علاوة على كل هذا، هناك مزية أخرى للمفاوضات المباشرة بين طهرانوواشنطن، لجهة منح الفرصة لإبعاد كل من روسيا والصين عن القضية، ذلك أنه حتى الآن فضلت إيران التفاوض مع الدول العظمى (5 + 1)، أي الدول الأعضاء الخمس في مجلس الأمن الدولي إضافة لألمانيا، لأنها اعتمدت على بكين وموسكو، اللتين تُشكلان عقبة مركزية أمام محاولات الأميركيين للعمل ضد البرنامج النووي الإيراني بتفويض من مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي يُقوي إيران ويُضعف الغرب، وبالتالي، ففي حال اختارت إيران المفاوضات المباشرة مع الولاياتالمتحدة، فإن ذلك سيكون تعبيراً عن امتعاضها من إدارة الأزمة من قبل الصين وروسيا. وانسياقاً خلف التوقعات الافتراضية، فإنه يمكن المفاوضات المستقبلية، في حال خرجت إلى حيز التنفيذ، أن تجلب ثلاثة تداعيات، واحدة سلبية، واثنتين إيجابيتين، الفرصة الإيجابية الأولى تتمثل في احتمال التوصل لاتفاق مقبول، والذي سيكون مفضلاً على الإمكانيتين الباقيتين: القنبلة أو الضربة العسكرية، كما أن التوصل لاتفاق، بدأ يُشكل بديلاً ثالثًا: حصول إيران على القنبلة أو توجيه الضربة العسكرية، ولكن لكي يتم التوصل لاتفاق مقبول يجب تطبيق الشروط الآتية: إخراج اليورانيوم المخصب من الأراضي الإيرانية، إغلاق منشأة التخصيب في فاردرادو، والثالث إشراف من قبل الأممالمتحدة، وهنا تلفت الدراسة إلى أن التوصل لاتفاق حول نسبة تخصيب بمعدل عشرين في المئة سيكون اتفاقاً سيئاً، ذلك أنه سيحفظ لإيران القدرة والطاقة على مواصلة مشروعها في المستقبل، كما أن اتفاقاً من هذا القبيل سيفتح الأبواب أمام طهران لأنْ تصل إلى القنبلة النووية خلال فترة قصيرة، وذلك قبل أنْ يكون الغرب قادراً على التدخل لمنعها من ذلك. الخطوة الإيجابية الثانية، وفق الدراسة، إن فشل المفاوضات سيمنح الشرعية للضربة العسكرية، ويُقوي الادعاء بأن جميع الطرق للتوصل إلى حل غير عسكري للأزمة مع إيران كان مصيرها الفشل، ولم يبقَ غير الخيار العسكري، وبالتالي يجب اللجوء إلى وقف البرنامج النووي الإيراني عبر الضربة العسكرية فقط، الأمر الذي يمنحها شرعية دولية، وأيضاً شرعية في الداخل الأميركي والإسرائيلي. وعلى رغم ذلك، فإن الاستراتيجيات المقترحة ضد إيران: العقوبات والضربة العسكرية والمفاوضات لا يمكن اعتبارها بدائل، بل إن كل استراتيجية هي مكملة للأخرى، وبالتالي تدعو الدراسة الغرب إلى تشديد العقوبات وعدم إخراج الخيار العسكري من الأهداف، لا سيما أن تجربة الماضي تؤكد أن إيران كلما شعرت بالخطر الداهم، عملت على تغيير سياستها. وخلصت الدراسة إلى القول إنه يتحتم على إسرائيل عدم رفض المفاوضات ستعزز، في حال فشلها، بين واشنطنوطهران، لأن هذا التطور يحمل في طياته الكثير من الإمكانات لإسرائيل ومن ضمنها، أنه أفضل من حصول طهران على القنبلة أو الهجوم العسكري، كما أن المفاوضات ستزيد كثيراً الشرعية لضربة عسكرية لتدمير البرنامج النووي الإيراني، * كاتب فلسطيني