الأردنيون يتظاهرون بغضب، يحرقون مؤسسات عامة بنيت بالضرائب التي يدفعونها، كل هذا الغضب الذي أزهق أرواح مواطنين وألحق الأذى بالعشرات منهم، بسبب قرار الحكومة رفع أسعار المشتقات النفطية الأساسية التي يعتمد عليها المواطنون في حياتهم اليومية. هل يستحق تعويم أسعار السلع الأساسية كل هذا الغضب؟ بالطبع فإنه سوف يبدو تحليلاً ساذجاً ربط الغضب برفع الأسعار وربط الإصلاح بالعودة عن القرار، فلم تكن الحال قبل رفع الأسعار تسر الخاطر، ولكنها بالتأكيد حالة متصلة بالفشل المتراكم في السياسات الأردنية الاقتصادية والتنموية في الإدارة الحكومية للعلاقات مع المجتمع والسوق والدول الخارجية، وهي أيضاً متصلة بثقافة العمل وسلوك المجتمعات والناس ووجهتها نحو الأعمال وادارة الموارد، وهي حالة تشجع على الاستنتاج أن الأردن (الدولة والمجتمع) يهرب من الجغرافيا، ومن نفسه أيضاً! ففي إدارته لموارده وللمكان يبدو وكأنه يجهل أن الصحراء تشكل 80 في المئة على الأقل من مساحته، وأنه أفقر بلد مائي في العالم، ويبدو في سلوكه الاقتصادي والتنموي كأنه بلد نفطي أو غني، فالعمالة الوافدة تزيد على المليون في بلد يعاني من الفقر والبطالة وعجز الموازنة وعجزاً هائلاً في الميزان التجاري لصالح الواردات مقابل صادرات هزيلة! في 1947 أنشئت وزارة التموين لتدير عمليات توفير السلع الأساسية للمواطنين، الخبز والطاقة والماء والكهرباء وسلع غذائية أخرى، بسعر مختلف عن السوق، وكان مفترضاً التوقف نهائياً عن هذه السياسية منذ 1988 عندما بدأ الأردن برنامج تصحيح اقتصادي يقوم على تحرير الأسعار وإخضاعها للسوق على أساس من العرض والطلب والتنافس، ولكن ذلك لم يحدث ليس خوفاً من المواطنين كما يبدو للوهلة الأولى برغم أن المواطنين هؤلاء يعارضون بالطبع رفع الأسعار، ولكن في الواقع لم يكن المستفيد الحقيقي من دعم السلع الأساسية سوى مجموعة من التجار والمقاولين والمتنفذين، وأظن أن هذا هو سبب استمرار سياسة الدعم لعقود عدّة، والذي لم يكن خوفاً من المواطنين. فالحكومات لم تحسب في يوم من الأيام حساب المواطن، ولكنها عمليات تمويل هائلة للموردين والفنادق وصناعة الحلويات والغذاء وتجار الأعلاف والحبوب، وفي الحقيقة لم يكن المواطن يستفيد من ذلك إلا نزراً يسيراً، فالسعر المخفض لهذه السلع مقتطع من الضرائب التي يدفعها المواطنون، وفي ظل سياسة انحياز السياسة الضريبة الفظيع الذي يعفي الأغنياء ويثقل على الفقراء ومتوسطي الحال فإن المواطن هو الذي يدفع ثمن الدعم للتجار والموردين والسياح والزوار والوافدين ولا يعود عليه من ذلك سوى نسبة ضئيلة هو في الحقيقة دفع ثمنها أضعافاً مضاعفة! وهذا النضال وهذه التضحيات لتثبيت الأسعار تمضي في الاتجاه الخاطئ وضد مصالح وأهداف المتظاهرين أنفسهم وضد مصالح المواطنين، والأولى والأهم في النضال والعمل السياسي والمعارضة المجتمعية أن تتجه إلى ترشيد الإنفاق وعدالة التوزيع وإعادة النظر في الموازنة العامة لتكون أكثر عدالة ومنطقية، وتوضيح الموارد جميعها وسبل إنفاقها بوضوح ودقة وشفافية، ومراجعة التشريعات الضريبية وتعفيل التحصيل الضريبي ومواجهة التهرب الضريبي والتهرب الجمركي، والارتقاء بالأداء العام في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، ومراجعة عمل ودور وجدوى ومعنى كثير من المؤسسات الحكومية والسفارات ومشروعات وبرامج ينفق عليها ويمولها دافعو الضرائب، وسياسات التعيين والتوظيف ليس فقط عدالتها ووضوحها ولكن أيضاً ترشيدها ومراجعتها فليس مكسباً للوطن والمواطنين الأعداد الزائدة من الموظفين! ليس المطلوب أبداً إدارة الأسعار بعيداً من قانون السوق ولكن يمكن تخفيض موازنة الدفاع بنسبة 25 في المئة، فقد تضاعفت في عشر سنوات عشر أضعاف من غير حرب ولا مبرر، وأن توزع الموارد العامة بعدالة ووضوح وسيكون على المواطنين بعد ذلك التعامل مع هذه الموارد كما هي وكما يمكن تحصيلها وتوزيعها من غير ترف نفطي ولا ظلم إقطاعي قروسطي. الأردنيون (الدولة والناس) بحاجة إلى أن يكتشفوا أنهم ليسوا بلداً نفطياً وأنهم في القرن الحادي والعشرين وليس في عصور الإقطاع. * كاتب أردني