«ما هو لبنان؟»، بلد يختفي حين يحاول أحد التقاطه أم أناس اعتادت الرحيل، صوت فيروز الحزين أم غرفة صوَّب أحدهم ربما من نافذتها سلاحه ليقتل آخر، أم لعله ديكور لا يمكنه أن يكون حقيقياً؟... أيحق لمن لم يعش الحرب أن ينتمي إلى هذا البلد؟.. ماذا يبقى في أذهان المنفيين عن أوطانهم بعد إزالة التصورات الخادعة والأحلام؟ «الوطن الحلم» فيلم جديد يعرض في الصالات الباريسية هذه الأيام، وهو من إخراج اللبنانية الفرنسية جيهان شعيب، التي غادرت لبنان صغيرة بسبب الحرب وتنقلت بين البلاد. ويثير هذا الفيلم تساؤلات الهوية والانتماء من وجهات نظر متعددة غنية تدعو إلى التأمل العميق، كل «منفي» يجد نفسه في إحداها أو في جزء منها، وربما فيها كلها... تحاور جيهان شعيب في شريطها الاستثنائي الكاتب المسرحي وجدي معوض، المخرجة والمراسلة الصحفية كاتيا جرجورة، الراقصة التعبيرية ندى شعيب، والكاتب باتريك شيحا... ليحكي كل منهم «لبنانه»، وطن أحلامه الذي تركه صغيراً، لكنه كان دائماً هنا... في المخيلة. بمناسبة عرض الشريط في دور العرض الفرنسية، هنا حوار مع جيهان عن فيلمها الذي تعتبره وطنها. هل كانت فكرة الفيلم تراودك باستمرار أم أنها طرأت نتيجة حدث خارجي مباشر؟ - لا أعرف بالضبط متى جاءتني. لدي كثير من ذكريات الطفولة في لبنان: مغادرتنا، قضاؤنا السنوات الأولى في المنفى، سماعنا الدائم لأخبار الوطن، بات في ذهني كأسطورة. في ذات الحين كانت صور الحرب تتوالى على شاشة التلفزيون. من هنا، كان ثمة عالمان متناقضان يمثلان البلد في مخيلتي. لطالما شغلني هذا المزيج بين الرقة والعنف وكيف لهما أن يجتمعا في بلد واحد! عاودني كل ذلك في حرب 2006 حيث كنت أفكر بتحقيق فيلم عن البلد. الهجوم منعني، لكنها كانت فترة أتاحت لي المجال للالتقاء بكثير من اللبنانيين في الخارج، وهو ما لم أكن أفعله من قبل، لاسيما أن أهلي لم ينخرطوا حقاً ضمن الجالية. بدأت بالكتابة آنذاك وكانت الفكرة فيلماً مغلقاً بلا شخصيات، ثم تطورت خلال الكتابة وفكرت بإدراج آراء أشخاص. كنت مهتمة بإظهار التنوع، بمعنى كيف يتمثل بلد واحد في رؤوس عدة! التقيت بكاتب له أصول لبنانية بعيدة، وذهب معي إلى لبنان، وكنت أعيش في فرنسا منذ منتصف الثمانينات، كنت أظن أنني سأجعله يكتشف بلداً، ولكن الأمر كان معاكساً! كان مسلحاً بالخرائط وبحكايا والده وجدته، وكان يذهب ليبحث عن الأمكنة التي شكلت في مخيلته معاني خاصة، وكان ذلك مختلفاً عما في مخيلتي أنا، كان وجه آخر للبنان (باتريك شيحا في الفيلم)، والفيلم يمثل وجهة نظري مقابل وجهة نظرهم. اختيار الشخصيات لما اقتصر اختيارك على شخصيات من عالم الفن والأدب، وتنتمي إلى وسط اجتماعي متماثل؟ - ما يهمني هو البلد المتخيل. بالطبع لدى الجميع صورة في الخيال للوطن، بيد أن الفنانين يعثرون على شكل لتخيلاتهم، إنهم أكثر حرية في تحمل مسؤولية الحقيقة وفي مواجهة الخجل من فرديتهم، كما أنهم في حديثهم عن أشياء خاصة لا يتوقفون أمام حدود الواقع ليتساءلوا أهذا ممكن أم لا. كانت طريقة هؤلاء وتعبيرهم، كما علاقتهم مع لينان، تدعوني للتفكير. لم أحاول في خياري أن أكون موضوعية أو أن ألجأ إلى علم الاجتماع. أعطيك مثالاً، وجدت في علاقة كاتيا بالحرب وتعريض نفسها للخطر إثارة وسحراً. وحين قرأت وجدي اكتشفت أنه يعبّر بكلمات محددة عنا، عن مشاعر هذا الجيل الذي ترك لبنان طفلاً. ثمة علاقة معهم شبه شخصية كانت تدفع باتجاه خطاب حميمي بعيد من الشكلية أو التفكير المسبق. إضافة إلى أمر كانت له أهميته في نظري، ألا وهو عدم اكتراث هؤلاء بالانتماء الديني. كانت النقاشات عديدة أثناء الكتابة، وفضلت التخلص من الجماعي للذهاب نحو الشخصي. بالتأكيد كان يمكن مخيلتهم الشخصية أن تلتقي مع مخيلة أكثر عمومية ولكنها لم تكن محددة بانتماء لجماعة ما. أيضاً كان المنفى عاملاً مشتركاً بين هؤلاء، وقد واجهوه في وقت مبكر جداً من عمرهم، وكلهم تعلموا خارج لبنان... كنت مهتمة بمعرفة كيف يمكن أن نكون لبنانيين من دون أن نتلقى هذه التربية هناك. إنه فيلم شديد الخصوصية، رغبت بعلاقة شخصية مع هؤلاء الذين سيرافقونني في رحلتي. لم أحدد العدد، هؤلاء الأربعة مَن جعلني أكتب الفيلم. كان التجرؤ على الولوج في الذاتية رهاناً، رهان البلد الحلم: الحلم الذاتي. أما وسطهم الاجتماعي، وإن كان ذاتَه، إلا أن مخيلة كل منهم متفاوتة، فباتريك مثلا يجسد الرهافة ذاتها، بعكس كاتيا. صورت شخصياتك الثلاث في لبنان، في أماكنها إن جاز التعبير، باستثناء وجدي معوض، حيث صورت المشاهد معه في فندق أحد المطارات! - حضَرت مع وجدي مسألة قدومه إلى لبنان لمدة سنوات، وفي كل مرة كان يؤجل. قد يعكس هذا التأجيل والإلغاء رغبة عميقة بعدم خطو خطوة كتلك. إنه يعود لفترات قصيرة جداً إلى لبنان، ففي تفكيره لا أحد يستطيع الذهاب إلى «بلدنا»، إنه «بلد غير طبيعي»... بحيث بات بالنسبة إليه «كصندوق أسود يأتي منه الوحي» وجل أعماله الفنية. لم يكن في مقدوره القول سأذهب إلى لبنان الحقيقي! لبنان كان شيئاً حميمياً بالنسبة له، كما لو أن الذهاب إليه يشكل مجازفة ستكسر شيئاً ما في عملية الخلق الإبداعي. بين وجدي الذي يرغب بالتحرر من قيد الانتماء، وكاتيا التي تبحث -على العكس- عن التجذر في البلد، أين يسير طريقك؟ - طريقي هو الفيلم! إنه ليس هروباً، ففيلمي القادم يقودني كذلك إلى لبنان، وهو عن شابة تجد منزل العائلة منهاراً فتقرر التخييم فيه! ليس التجذر ما أبحث عنه، بل علاقة حية مع لبنان. أكثر حرية هل تغير شيء ما في علاقتك بلبنان بعد الفيلم؟ - نعم، الكثير... قد لا يكون بمقدوري التعبير بشكل واضح، لكنني أشعر بأنني أكثر حرية في علاقتي بلبنان، بمعنى أنه ليس هناك هوية لبنانية لا أطاولها، أي هوية مرجع علي أن أصلها، فثمة طرق عدة لعيش هذا الانتماء بحرية وبطريقتي الخاصة التي باتت أكثر تجريدية. أعطي مثلاً: لقد رمم والدايَ بيتنا في لبنان قبل ثماني سنوات، ولكنهما لا يعيشان فيه حقاً، كانت إقامتهما فيه تقل يوماً بعد يوم حتى غادراه. كنت أجد هذا مؤسفاً. الآن أمسيت أقل تمسكاً بهذه الأشياء الملموسة، ولديّ إحساس بأن هويتي تحررت، وأن ثمة شيئاً آخر يتعلق بالذكريات، بالأحلام والاستيهام، بالحكايا وبالأسطورة، بكل ما يقال لنا ونتخيله... والسؤال هو إن كان يمكننا الاستمرار بالقول إن لدينا هوية لبنانية وقد عشنا خارج لبنان لا نتشارك باللغة ولا بالمكان .. هل ثمة ما هو لبناني بقي فينا؟ أظن ذلك. ثمة طريقة معاصرة لعيش الهوية، لا ترتبط بالبطاقة الشخصية، وهي تتغير. حددي لنا هذه الهوية على نحو أدق. - لائحة من الأشياء في داخلي تتعلق بكل ما هو لبناني، أحاسيس لا تشبه ما يمكن أن يشعر به نرويجي مثلاً! في الفيلم وجد باتريك «لبنانه» في الكلمات، في جدّيه ورواياتهما. كان يستطيع التعرف إلى أماكن في لبنان لم يكن قد رآها في حياته. وأنت؟ ما هي صورة لبنان المتخيل في ذاكرتك؟ وكيف تعيشين «هويتك» اللبنانية؟ - أول ما يخطر ببالي الآن هو وقوفي حافية في شقة كبيرة على أرض رخامية بيضاء باردة في وقت القيلولة والحر شديد في الخارج. صورة لبنان تتغير باستمرار، لأنه يتغير بسرعة، في خيالي أنه أكثر غنى وانفتاحاً. إن تركيزي على تجربتي الشخصية والارتباط بهذا الشيء الشخصي الذي يمكنه أن يختفي، يقلّ. من المهم لي تقبّل التغيير وعدم الحنين. ثمة فلتر يجعلني أرى الأمور وأفسرها بطريقتي، وليس كالآخرين. أشعر بالتأكيد أنني أجنبية، لأنني لا أحكي العربية، إنما لحسن الحظ ثمة هويات متعددة والمنفى جزء من الهوية اللبنانية وهذا تنوع إضافي لها. علمني الفيلم أن أكون أقل انشغالاً بالنظرة التي توجّه إليّ هناك. سنكون دائما أجانب في لبنان وغيره. مشكلة الهوية هل تسري هذه الأقوال على هويتك الفرنسية؟ وما تأثير بقية الهويات على شخصيتك وفنك السينمائي؟ - (بعد تفكير) نعم أعتقد ذلك. فرنسا بصدد عيش تجربة جديدة وبحث حول الهوية وثمة عودة إلى فكرة الهوية الوطنية. فرنسا شكلتني عقلياً. علاقتي مع لبنان أكثر عاطفية، إنها لا تتعلق بالعقل بل تشابه العلاقة مع الوالدين، إذ بإمكاننا انتقادهما ولكنهما من صنعنا. أما البلد الذي أثر فيَّ جمالياً وله تأثير أكبر على فني السينمائي، فهو المكسيك. تشعر كاتيا في الفيلم كما لو أن من لم يعش حرب لبنان لا يحق له العيش في لبنان؟ هل راودك الشعور ذاته؟ - نعم، كان هذا الشعور موجوداً وإن لم يُشعرني به أحد، وهذا الاختلاف سيكون هنا دوما. بيد أنني أدركت أثناء تحقيق الفيلم بأننا عشنا هذه الحرب وقد تركت أثرها فينا إنما بمستويات متفاوتة. معاناتنا كانت مختلفة، ولكن الحرب علمتنا كثيراً وأثّرت بعمق في كينونتنا. في حرب تموز 2006 كنت في فرنسا، ولكنني شعرت بأن «الوضع الطبيعي» قد عاد! إنه الوضع «العادي»، هذا الإحساس بالعدم والخوف واللاعدالة! هذا الشعور هو ما شكّل طفولتنا وجيلنا وهو المرجع. هل تفاوتت ردود الفعل على الفيلم بين فرنسيين ولبنانيين؟ - تأثر فرنسيون بالفيلم، فهو يعيد أيضاً إلى العلاقة مع الطفولة، إنه يحيل في العمق إلى المنفى العالمي، إلى الكبر وضياع شيء حالم وجميل هو الطفولة. أشياء عايشها الجميع دون حاجة للابتعاد عن الوطن. عرض فيلمي في تظاهرة «شاشات الواقع» في لبنان، وكان الجمهور يطرح السؤال ذاته عن المنفى وعن العائلة المتوزعة في كل أصقاع الأرض. الفيلم يطرح كذلك مسألة الإرث، فما الذي نتلقاه حين لا نكون مؤمنين ولا نتكلم اللغة ولا نقطن المكان؟ ماذا سننقل لأبنائنا؟ وما نقل لنا آباؤنا؟ أهي قيادة السيارة أم تناول الويسكي خلال الوجبة أم النرجيلة على الشرفات وحب المغامرات... كما حصل مع باتريك؟ كل فرد نقلت له أشياء مختلفة، وما ينقل لنا هو فوضى نحاول نحن تنظيمها.