الاحتفال بانتخاب أمين معلوف عضواً في الأكاديمية الفرنسية يعيدنا إلى التفكير في موضوع الهوية التي سبق لمعلوف نفسه أن «حاول» معالجتها في كتابه «هويات قاتلة». وحين نقول «حاول» لا نقصد التلميح إلى فشله في مقاربة هذه المسألة بل تأكيد عبثية التفتيش عن أجوبة حاسمة ونهائية لأسئلة عن الانتماء ستبقى مطروحة ما دام الإنسان يبحث عن فردوسه المفقود وأناه التائهة. لذلك يبدو من المتوقع أن نسأل عن أي أمين معلوف نتحدث: عن الفرنسي ذي الأصل اللبناني أم عن اللبناني الذي يحمل الجنسية الفرنسية؟ ويستعاد السؤال كل مرة يتفوق فيها لبناني (وعربي) وينجح في تبوؤ مركز رفيع، وخصوصاً متى ترافق ذلك كله مع مجموعة من الشكوك والاتهامات والتوقعات واحتمال الخيبات، تجعل السؤال قضية تستحق التأمل في شؤونها وشجونها. أول ما يتبادر إلى ذهننا حين نسمع خبراً من هذا النوع هو التشكيك: لماذا هو؟ لماذا الآن؟ ماذا في إمكانه أن يحقق لنا؟ هل يستحق؟ ما المقابل؟ ينبع كل ذلك بداية من تشكيكنا في إمكاناتنا بل من اقتناعنا بأننا غير مؤهلين إلا للخيبات والهزائم والاضطهاد والسجون والاغتيال، ثم من إيماننا بأننا معرضون على مدار الساعة لمؤامرات خارجية تريد القضاء علينا وإن تزيت بزي الدعم والمساندة والتقدير. لذلك فالجائزة العالمية التي تمنح لأحد مواطنينا هي «مكافأة» له على خدمة قدمها لغير بلاده وعلى حساب بلاده، أو «إغراء» له ليقوم بعمل يصب في مصلحة من كرمه، ولن يستطيع التهرب من تنفيذه وإلا تعرض لما لا يتمناه. ومن هنا تولدت عندنا القناعة بأن الذين ذهبوا من «عندنا» للدراسة «عندهم» وتفوقوا في مجالاتهم لا يجرؤون على العودة لخدمة بلادهم وإلا قُتلوا في أسرتهم أو في حوادث السيارات. أما التفكير في أن عدم عودتهم سببه الفساد والطغيان وتسلط الجهلاء فلا يمكن أن نضعه في الحسبان. السؤال الثاني الذي يفرض نفسه هو: كيف سيتصرف هذا اللبناني (أو أي عربي) مع زملائه ومواطنيه الغربيين من اليهود المناصرين لإسرائيل؟ فقد يستطيع أن يختلف معهم في الرأي بحسب ما تقره له دساتير البلاد التي صار من أبنائها، أما أن يعاديهم فأمر يتنافى مع مواطنيته الجديدة. فهل يكون عند ذلك عدو الأمة العربية ويتم التبرؤ منه؟ في الأمس القريب كانت المغنية «شاكيرا» فتاة لطيفة جميلة افتخر لبنان بها، فاستقبلها ورقص على وقع أغانيها واهتز فرحاً مع اهتزاز خصرها، وحين زارت إسرائيل وغنت وحلت ضيفة مكرمة على مائدة رئيس الدولة انهال عليها صحافيو الوطن بحجارة الرجم. السؤال الثالث الاستطرادي: ماذا فعل لبنان (ويصح الكلام على أكثر البلدان العربية) لهؤلاء المتفوقين المبدعين عدا عن التغني بهم حين ينجحون ويبرعون؟ فهل لبنان الذي يفتخر اليوم بجبران خليل جبران هو لبنان نفسه الذي فرض على «كاملة» (والدته) أن تصطحب أولادها وترحل بهم إلى الولايات المتحدة؟ أم هو لبنان آخر حلم به وغنى له واستوحى منه لأنه لا يشبه لبنان الآخرين؟ وكيف صنع لبنان إبداع حسن كامل الصباح وكيف استفاد منه؟ وهل صار يوسف شاهين وعمر الشريف عالميين لولا هجرة عائلتيهما إلى مصر؟ وهل لبنانية كارلوس سليم وكارلوس غصن هي التي جعلت الأول أغنى رجل في العالم والثاني رجل أعمال ناجحاً؟ وهل ساهم لبنان في إيصال معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية أم في دفعه إلى الهرب إلى فرنسا بسبب الحرب؟ وقلْ مثل ذلك عن سائر المهاجرين الذين حملوا جيناتهم ولقحوها بالعنصر الغربي: ثقافة وأسلوب حياة وزواجا وإنجاباً لذرية من الإبداع والأولاد، سينتصر فيها لا محالة العنصر الأقوى والأكثر حضارة بحكم التطور والارتقاء وبقاء الأصلح. والدليل أن أولاد أمين معلوف غرباء عن بلاد الآباء ولغة الأجداد وحكايات الجدات وإن كانت أسماؤهم عربية: رشدي وطارق وزياد، في حين يبدو اهتمام زوجته «أندريه» بالمطبخ اللبناني والتسويق له كتابةً ودعايةً محاولة يائسة ل «لبننة» المحيط الذي «فرنج» العائلة. السؤال الرابع يفرض نفسه حين يتعلق الأمر بشخصية عربية وبالتحديد لبنانية: ما ديانته؟ واستطراداً ما مذهبه؟ وأخيراً ما هي سياسته؟ فهل أمين معلوف مع 8 آذار أو 14 آذار؟ إن تحديد هذا الجانب من هويته يساعد المتسائلين على معرفة أسباب نجاحه وأهداف اختياره والرسالة التي يرغب الغرب في توجيهها إلى الشرق من خلال كل ذلك، فضلاً عن خلفيات التعتيم على أخباره في بعض الصحف والإضاءة عليها في صحف أخرى. لا شيء يمنع أن يكون أمين معلوف غير معني الآن بكل هذه التساؤلات، بعدما بات على يقين من أن هويته هي هذا المزيج الحضاري الديني اللغوي، علماً بأن الآخرين سيطالبونه في مرحلة ما بأن يعبر الجسر بين الحضارتين ويحسم خياره. فهو وإن كان نال أكثر الأصوات وصار عضواً في الأكاديمية سيبقى عرضة لتساؤلات المحللين والدارسين والنقاد الفرنسيين عما إذا كان يستحق هذا المقعد، بقدر ما هو الآن موضوع تفكير عند الأجيال اللبنانية الشابة المتسائلة: لو بقي معلوف في بلاده هل كان حقق شيئاً يفتخر به؟ نحن مطالبون بالتعامل مع الهوية التي نختارها عن سابق تصور وتصميم، بغض النظر عما إذا كانت لأحلام نومنا لغةُ طفولتنا. ولكن لو لم يكن الروائي اللبناني أمين معلوف راغباً في أن يكون فرنسياً لما اختار فرنسا لغة إبداع ووطناً لحياة جديدة بعيداً عن الوطن الأم، ولو لم يكن فرنسياً لما ترشح للأكاديمية ولما انتخبه أعضاؤها. أما هويته اللبنانية فهي على الأرجح مسألة تعني اللبنانيين من دون سواهم، الفرنكوفونيين منهم على الأقل.