«لقد فرغ صبري، فهأنذا آخذ بكتابة قصة خطواتي الأولى في طريق الحياة. وكان يمكنني مع هذا ان أستغني عن ذلك. ان هناك شيئاً محققاً لا ريب فيه، هو انني لن اكتب سيرة حياتي عن غير هذه الفترة، ولو قدّر لي أن أعيش مئة سنة. فلا بد من أن يكون المرء حقيراً في شدة افتتانه بنفسه حتى يتحدث عنها بغير خجل ولا حياء». على هذا النحو يبدأ دوستويفسكي صفحات روايته قبل الأخيرة «المراهق» التي، حتى وإن كان يمكن القول انها اقل رواياته الكبيرة شهرة، إذ انها لا تضاهي مقارنة ب «الأبله» و «الجريمة والعقاب» وبخاصة «الإخوة كارمازوف»، فإنها تعتبر مفصلية في مساره الكتابي من ناحيتين، فهي من ناحية تكاد تلخّص نظرته الى الأدب في حد ذاته والى شخصياته التي امتلأت بها رواياته السابقة، ومن ناحية ثانية تمهد، فلسفياً على الأقل، لروايته الكبرى التي كتبها من بعدها ولم يكن يدري بالطبع انها ستكون عمله الاخير: «الإخوة كارامازوف». والحال أن آية ذلك هي ان في هذه الرواية بالذات يحدث لدى دوستويفسكي ذلك الانتقال من التوجه النيتشوي، الى نزعة مسيحية خالصة ستكون الرواية الاخيرة أبرز تجلًّ لها في أدبه كما في حياته. من ناحية مبدئية، قد يكون في إمكان المرء أن يعتبر هذه الرواية نوعاً من «السيرة الذاتية» للكاتب، غير انها ليست كذلك إلا من الناحية الجوّانية، أي من ناحية سبر الكاتب أغوار شخصيته الرئيسة ومحاولة كشف – هو أشبه بتعرية الذات – سمات تلك الأغوار، من دون ان تكون السمات الخارجية للشخصية على علاقة بتاريخ الكاتب نفسه. الى حد ما يمكن القول هنا ان دوستويفسكي يبدو وكأنه استعار حياة شخص آخر، يكاد لا يشبهه في أية حال من الأحوال، ليرسم من خلالها ملامح تطوره الفكري الخاص، في لحظة مفصلية من حياته. ومن هنا إذا كان يبدو على دوستويفسكي – الذي يكتب الرواية، أصلاً، بصيغة الراوي ما يضاعف من حدة الاحساس بوجود «سيرة ذاتية» في الأمر -، اذا كان يبدو عليه انه – على الدوام – أقرب الى إدانة الشخصية وفضح تهافتها، وفي معظم الاحيان دناءتها الاخلاقية، فإنه في الوقت نفسه يبدو وكأنه يطهّرها في آثامها، وربما كفعل تطهير ذاتي. ولعل هذا يكتشف منذ الصفحات الأولى من الرواية حيث نجد الكاتب/الراوي يقول، بعد ان ينبئنا بأنه ليس أديباً و «لا أحب ان اكون اديباً»، أن «استخراج ما تنطوي عليه نفسي ومحاولة وصف عواطفي من اجل ان اعرضها في سوق الادب، هو في نظري من الامور المعيبة التي تدل على صغار. ومع ذلك أتنبأ، على كره مني واستياء، انه قد يستحيل عليّ ان أتحاشى وصف عواطفي تحاشياً كاملاً، وأن أتجنب عرض تأملاتي وأفكاري ولو كانت عامية: فإلى هذا الحد يسقط العمل الأدبي بصاحبه ولو كان لا يفعله إلا لنفسه...». ولكن من هو هذا الشخص الذي نكاد نقول ان دوستويفسكي يستخدمه في هذه الرواية في شكل أو في آخر، قناعاً يعبّر من خلاله عن تحولات اساسية في حياته وأفكاره ذات لحظة؟ انه الشاب آركادي دولغوروكي، الذي ينبئنا منذ البداية انه ابن غير شرعي للسيد مالك الاراضي فرسيلوف من خادمة. والحال ان آركادي يخبرنا منذ البداية ان أباه الحقيقي لم يعترف به أبداً بل عامله دائماً باحتقار كان التعويض عليه في معاملة الأب الآخر: والده بالتبني الذي حمل إسمه، وهو بستاني بسيط من أقنان الأب الحقيقي. والراوي يخبرنا، قبل ان ينصرف الى رواية أحداث حياته التي جرت طوال عام ونيّف، وهي ما يرويها في القصة، انه بفضل أبيه الحقيقي – الذي لم يعترف به – أدخل الى مدرسة فرنسية راقية ونال اهتماماً ورعاية اجتماعية غير واضحي السبب، في مقابل معاملة رفاقه في الدراسة له، بكل احتقار إذ سرعان ما انكشفت وضاعته. اما هو، فإن ذلك كله لم يؤثر فيه بكثير من السلبية، هو الذي استبدت به، منذ البداية، فكرة ثابتة ان يصبح في ثراء روتشيلد، وفي مكانة اجتماعية تزيد عن مكانة أيّ من معارفه. وهو للوصول الى هذا، آلى على نفسه ان يتبع كل السبل، بما فيها الصوم عن الطعام وعن الإنفاق وادخار أي قرش يصل الى يديه. غير ان اركادي، حتى وإن كانت ارادته تدفعه الى هذا، وجد نفسه عملياً عاجزاً عنه. فهو بطبيعته الغريزية، وربما ايضاً بإرثه الابوي – حيث سرعان ما سنعرف ان اباه انفق ما لا يقل عن ثلاث ثروات في حياته، ما جعله نبيلاً مفلساً على الدوام – مسرفاً وهكذا صار الصراع حاداً لديه – أي لدى آركادي – بين رغبته في الثراء ومعرفته ان هذا لا يتيسر له إلا من طريق الادخار، وبين نزوعه الى الإنفاق، بل حتى الى ممارسة القمار... من دون ان ننسى اندفاعاته الأريحية حيث نراه مبذّراً في سبيل المحيطين به. اما «الحدث» في حياته الذي يشكل محور العام والنيّف اللذين يحدثنا عنهما في الرواية، فهو وقوعه في غرام امرأة سرعان ما يتبين انها معشوقة أبيه. ولسوف يكون من حظه هنا ان يقع على ما يشبه الوثيقة التي من شأنها لو أُذيعت ان تفضح العلاقة بين الاب والمرأة، وهكذا يبدأ ألاعيبه ومناوراته، ضد ابيه وفي سبيل الحصول على المرأة. بل انه، اذ يرى ان الامر كله سيعود عليه بما يتوخاه من مكاسب مادية، يزيد من إنفاق المال، ويكثر من حلقة الدائنين المحيطين به. ولسوف يكتشف بعد حين ان واحداً من اهم دائنيه انما هو عشيق لأخته من ابيه، ليزا. والحقيقة ان هذا كله يجعله يبدأ بالشعور ان ثمة كماشة تطبق عليه، في الوقت نفسه الذي نراه فيه ساعياً الى الاستفادة من كل هذا. وما حكاية الرواية سوى حكاية هذا المسعى وقد صار، من ناحية، وسواساً يستبد به، ومن ناحية أخرى وسيلة ضمنية لخلاصه، شرط ان يتمكن من تدوير الزوايا، ومن ان يقوم بما يريد القيام به، انما من دون إلحاق الأذى بالآخرين، بمن فيهم أبوه وأخته. وعلى هذا النحو تتحول «الاحداث» كلها، الى صراع داخلي في ذهن – كما في روح – هذا الفتى المراهق... وينتهي به الأمر ذات لحظة الى نوع من الانغلاق على الذات في حمأة فلسفة فردية شديدة الصرامة، يخلقها لنفسه في محاولة منه للاقتناع بأن من حقه ان يفعل كل ما يفعله. لقد اضحى الآن انانياً خالصاً، غير ان هذا بالتحديد سيكون ما يدفع به الى المعاناة. ودوستويفسكي يوضح لنا الامر هنا، بكل بساطة: ان لآركادي روحاً سلافية لا لبس فيها ولا غموض. وهذه الروح هي التي تجعله غير راض على الاطلاق عن انانيته الجديدة التي وجد نفسه يغرق فيها. ومن هنا حتى بروز الصراع الداخلي لدى أركادي بوصفه المحرك الاساس للرواية في لحظات متقدمة منها، خطوة يقطعها هذا العمل الادبي الذي يوصل فيه صاحب «المقامر» و«الجريمة والعقاب» نزوعه الأدبي الى التعمق في التحليل النفسي الى منتهاه، ما يجعل من «المراهق» واحدة من اكثر روايات القرن التاسع عشر احتفالاً بالبعد النفسي في الأدب. وذلك حين تنقلب الامور لدى آركادي، وبقلمه، في اتجاه غرق في نوع من الاحساس بالسعادة الكونية، ولا سيما حين يتيقن من ان غرقه في الانانية قد دفعه الى تلك المعاناة المدهشة – وذلك لأنه يجد في تلك المعاناة ذلك الخلاص المسيحي، الذي سبق ان تلمسناه لدى ميشكن في «الابله»، وسنتلمسه في آخر روايات دوستويفسكي «الإخوة كارمازوف» في شكل اكثر جذرية -. ولعل هذه «القلبة»، هي التي جعلت الذين يكتبون عن هذه الرواية ويحللونها، على ضوء حياة دوستويفسكي وأدبه، يرون انه اوصل فيها، الى ذروة مدهشة، كونه شاعراً وسابراً لأغوار النفس البشرية، حتى وإن كان قد عجز عن ان يجعلها، من الناحية الأدبية الصرف، تضاهي رواياته الكبرى. [email protected]