يبدو أن القروش البيض التي ادخرها السوريون حان وقتها، فأيامهم لم تكن يوماً بهذا «السواد». ضيق الأحوال المادية، في ظلّ محدودية الدخل تجعل قدرتهم على الادخار في أقل مستوى، لا بل تجعله أمراً لا يمكن المضي فيه بالنسبة إلى أكثرية الأسر في ظلّ الظروف الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد حالياً. غيّرت الظروف الحالية الغرض الذي تقوم عليه فكرة الادخار، والتي عادة ما تنشأ من أجل اللجوء إليها لمواجهة أعباء تعليم الأبناء أو في حالة كبار السن أو في مرحلة الشيخوخة... إلى حالات الأزمات الطارئة وللوفاء بمتطلبات الحياة المتسارعة. وتقول انتصار، وهي معلمة متقاعدة، إنها أمضت ثلاثين عاماً في المهنة ولم تنقطع شهراً واحداً عن اعتماد إحدى طرق الادخار كالقروض أو الجمعيات، «والجمعيات هي إحدى وسائل الادخار يعتمدها السوريون وتقارب مبدأ التكافل الأهلي، وهي تقوم بين الجيران أو زملاء العمل، حيث يلتزم كل منهم باقتطاع مبلغ محدد من مرتبه بداية كل شهر ينالها أحدهم بشكل دوري». وتتابع: «مكّنتنا هذه الجمعيات من تأمين تعليم أبنائنا في الجامعات في السابق، ولكن الحال اليوم اختلفت ولن يكون بمقدورنا تخصيص هذه الادخارات لأغراض مشابهة فالظروف المادية اختلفت وبالكاد نستطيع القيام بأعباء حياتنا اليومية التي تتزايد كلفتها يوماً بعد آخر». وبالنسبة إلى قنوات الادخار الرسمية المتمثلة بالقروض المصرفية والبورصة وسواها، فلم يعد بالإمكان الاعتماد عليها في ظلّ سياسات اقتصادية متقلبة، الأمر الذي يدفع السوريين إلى تبني طرق وابتكارات خاصة بهم تغنيهم عن وسائل الادخار المالية الرسمية، وهذه الطرق تمثّل بديلاً مقبولاً في ظلّ تعثّر المؤسسات المالية عن الإيفاء بحاجات المواطنين في مجال الادخار، وخصوصاً قطاع المواطنين من خارج الجهاز الحكومي. ويقول محمد، وهو سائق سيارة أجرة: «في حين يستطيع الموظف الحصول على قرض اعتماداً على مرتبه، لا يستطيع غير الموظفين الحصول على قروض مشابهة». ويضيف: «عدا عن كوني لا أستطيع الحصول على قرض فأنا لا أستطيع الالتزام بأية جمعية مع الأصدقاء، لأنني لا أمتلك مرتباً ثابتاً وبالتالي فرص الادخار أمامي شبه معدومة». أما موظف الحكومة ماجد فيقول: «ما كنت أدخره خلال سنوات عمري لم يكفني للوفاء بالتزامات تزويج ابني قبل ثلاث سنوات، فحصلت على قرض بقيمة 300 ألف ليرة، وما زلت أسدده حتى اليوم للدولة التي تسترده مع فوائد تبلع نحو ثلث قيمته، ما يقلّص من قدرتي على الدخول في أي مشروع ادخاري آخر». ويتابع: «احتاجت ابنتي إلى مبلغ 150 ألف ليرة سورية لتتمكن من الالتحاق بالجامعة، ولم أتمكن من الحصول على المبلغ نتيجة التزاماتي السابقة، فاضطررت للاقتراض من جديد بالشروط المجحفة التي أرهقتني من السنوات الماضية». صيغة أخرى للادخار اعتادها السوريون منذ زمن طويل، وهي عادة الادخار بالذهب، ولا تزال هذه العادة مستمرة لدى النساء، وقد أثبتت نجاعتها مع ارتفاع سعر هذا المعدن الثمين. ويقول أبو زهير، وهو صائغ قديم: «إنه ادخار ناجح بلا شك وأتذكر أني بعت مصاغات ذهبية لنساء قبل سنوات طويلة، ومن ثم عدت واشتريتها منهن بأسعار مضاعفة عشرات المرات، بمعنى أنّهن نجحن في تحويل مصاغهن الذهبي إلى ثروة في بعض الأحيان». ويضيف: «لا يستطيع الجميع الحفاظ على ما يملكونه على شكل معادن ثمينة، فهناك على الدوام من يتخلى عن جزء مما يمتلكه من الذهب عند الحاجة، خصوصاً لسداد تكاليف التعليم العالي المتنامية، وعند الزواج وفي حالات الطوارئ أو العمليات الجراحية، لكن مَن ينجح في الادخار عن طريق الذهب عادة ما تكون ادخاراتهم موفقة». لا يقتصر التغيير في حياة السوريين على تراجع القدرة على الادخار، وهو ما تغيّر في حياة السوريين. فقد تغيّرت معظم العادات الاستهلاكية والاقتصادية لديهم وخصوصاً ما يتعلق منها بالكماليات التي بدأ التخلي عنها عملياً. وإذا كانت القدرة الادخارية هي قدرة الفرد على تخصيص جزء من دخله من أجل المستقبل، وهي تتحدّد بالفرق بين حجم الدخل وحجم الإِنفاق، فمن المؤكد أن هذه القدرة في حالة تراجع مستمر لدى السوريين الذين بات مدخولهم لا يفي بحجم إنفاقاتهم، وبات البحث عن كفاف يومهم... همهم الأول.