عدوى التضارب السياسي والتناقض الأيديولوجي والتنافر الفكري انتقلت من مقصورة الحكم إلى مدرجات المواطنين في مصر. ويبدو أن كثرة تعرضهم لفترات طويلة من القرار وعكسه، والتصريح ونفيه، والتحليل وتحريمه، والوعد والنكوص عنه، والقرض ورفضه، والمحافظ وكلبه، والاحتفال بالنصر وتكريم قاتل صانع النصر أججت جنوح المصريين إلى الانغماس في أغوار التضارب رافعين شعار «ماحدش أحسن من حد». الحد الأدنى من التوافق يبدو غائباً تماماً عن الشكل النهائي لما سيكون عليه دستور مصر الجديد، فبينما يفضله البعض «مسلوقاً»، يندد البعض الآخر بالسلق ويطالب بأن يكون «ول دان» (أي مطهو جيداً) وبدل أن يكون الحوار المجتمعي الدائر مرتكزاً إلى فحوى مواد الدستور وبنوده، تحولت القضية برمتها إلى «خناقة» بين تيارات الإسلام السياسي ومريديها المعتبرة الدستور الذي «تسلقه» الأفضل في التاريخ المصري، وربما في التاريخ المطلق من جهة، وبين التيارات الأخرى الليبرالية واليسارية وأنصارها والتي ترى في عملية السلق إقصاء ومغالبة واستحواذاً بهدف إنهاء الطبخة سريعاً. سرعة إنهاء الطبخ ليست دائماً مؤشراً على جودة المنتج النهائي أو صدقيته أو وجوده من الأصل، كذلك الحال في ما يختص بالطبل والزمر الذي عزفته مجموعات سلفية على وقع ما قيل إنه قرار للنائب العام بحجب المواقع الإباحية تنفيذاً لقرار محكمة صدر في العام 2009، واتضح في ما بعد أنه مجرد «طلب إفادة» عن سبب عدم تنفيذ القرار. وفي وقت طالت الأصداء الاحتفالية بالقرار المزعوم تعليقات القراء ورسائل المشاهدين وتكبيرات المؤمنين في جمعة «تطبيق الشريعة»، كان الخبراء العنكبوتيون يبحون أصواتهم هباء مؤكدين استحالة تفعيل حجب من هذا النوع. كما انشغل فريق ثالث بالنظر في البلورة المسحورة لتوقع ما ستسفر عنه مثل هذه الخطوة التي تهلل لها قوى الإسلام السياسي ومريدوها باعتبارها تطبيقاً لشرع الله، لكنها مجرد البداية لحجب المعارضة ووأد الانتقاد وخنق الإبداع. وكما ولد «هاش تاغ» على متن «تويتر» بعد ثوان معدودة من احتفالية النصر المبين بالحجب المستحيل وهي #egypornban لمناقشة ما يعنيه الحجب، ليس دفاعاً عن الإباحية، بقدر ما هي تحليل للاتجاه العام نحو اللامنطق في الشارع المصري. وإذا كان المنطق يخضع لمعايير ومقاييس مختلفة، فإن الصح والخطأ كان يفترض ألا يخضعا للتأويل والمزايدة، لكن تجري عملية إخضاعهما. فبعد عقود طويلة من العمل الحقوقي والجهد التنويري لحماية حقوق الطفل المصري البديهية في صحة الجسد والعقل والحق في التعليم وغيرها، خرج وزير التربية والتعليم إبراهيم غنيم ليعلن أن «الضرب غير المبرح للتلاميذ في المدارس ليس مشكلة». وزاد الطين بلة خروج فتوى من دار الإفتاء المصرية تنص على أن «الضرب المبرح للتلاميذ حرام شرعاً»، وهو ما يعني أن الضرب غير المبرح حلال شرعاً. وأبى المصريون مجدداً أن يتوافقوا، ولو حتى لحماية أبنائهم وبناتهم من الضرب، فخرجت جحافل مؤكدة أننا «جميعاً تربينا وتعلمنا بقليل من الضرب»، وأن «قلة الضرب وتجريمه ولدت أجيالاً ينقصها الأدب وتخاصمها الأخلاق». وبالطبع، وقفت جحافل أخرى على الجانب الآخر وقد عقدت ألسنتها لهول المفاجأة، حتى أن إحداهن غردت على «تويتر» مولولة: «يا لهوي! أحدث إفرازات الثورة ضرب في المدارس بمباركة سياسية ودينية». عملة السياسة والدين استمرت في المضي قدماً ممزقة نسيج الثورة الذي ظن البعض أنه محاك بحنكة شديدة ومزين ببهاء وجمال يسران الأعين. فبعد إعادة رسم «غرافيتي الثورة» على جدران الجامعة الأميركية في ميدان التحرير بعد دقائق من حملة نظافة حكومية قامت بطمسه، وهي العودة التي أعادت بث قدر من الأمل في قلوب من سلبت ثورتهم بأن «الثورة مستمرة»، بادر مشاركون في جمعة «تطبيق الشريعة» التي سطت على شعار الثورة بعد تحريفه من «عيش حرية عدالة اجتماعية» إلى «عيش حرية شريعة إسلامية» إلى كتابة وطباعة آيات قرآنية فوق وجوه شهداء الثورة المرسومين على الجدران والمحفورين في القلوب. قلوب المستائين وتعليقاتهم الغاضبة لم تلق إلا تنديداً لموقفهم واتهاماً صريحاً في هيئة سؤال استنكاري خبيث: «وهل تكرهون آيات القرآن؟». ورغم أن السؤال مغرض، والغرض منه إحراج المستاء وإخراس الملتاع، إلا أن الرد كان بإعادة رسم وجوه الثورة الحقيقية مجدداً. تجدد الحديث عن قرض صندوق النقد الدولي الحرام سابقاً الحلال حالياً بات هو الآخر نقطة شد وجذب بين إسلاميين مؤيدين للقرض الجميل الذي سيعيد الثقة للاقتصاد والمستثمر للاستثمار بما لا يخالف شرع الله لأن الفائدة التي كانت يوماً «ربوية» باتت الآن «رسوماً إدارية»، وبين غير إسلاميين مستائين من قرض لا يخرج عن كونه عبئاً إضافياً على اقتصاد منهك، إضافة إلى كونه ترجمة فعلية لظاهرة التحول ورياضة ركوب الأمواج في دنيا الدين والاقتصاد. ويبدو أن كثيرين باتوا منهكين وأصبحوا محبطين لدرجة جعلت بعضهم يجاهر بما كان يدور في غرف مغلقة وجلسات محددة لرجال أعمال متضررين ومواطنين غير مطمئنين من مجريات ما بعد الثورة. فقد بدأت عبارة «يوم من أيامك يا مبارك» تخرج من حيز السر إلى العلن، وهو الخروج المصحوب بالطبع باللعنات من قبل من ما زالوا ممسكين بحبال الأمل... أو بتلابيب الحكم.