يقول ابن رشد: «إن حالنا الاجتماعية لا تؤهلنا للإحاطة بكل ما يعود علينا من منافع المرأة، فهي في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط، وما ذلك إلاّ لأن حال العبودية التي أنشأنا عليها نساءنا أتلفت مواهبها العظمى، وقضت على اقتدارها العقلي، فتنقضي حياتهن كما تنقضي حياة البنات، فهن عالة على أزواجهن، وسبب في شقاء المدن وهلاكها بؤساً، لأن عدد النساء يربو على عدد الرجال ضعفين، فهن ثلثا مجموع السكان، ولكنهن يعشن كالحيوان الطفيلي على جسم الثلث الباقي بعجزهن عن تحصيل قوتهن الضروري»، أما لو عاش ابن رشد وسمع بالداعية الإسلامي، الذي أتلف جمجمة ابنته ذات الأعوام الخمسة ضرباً وكسراً، فقتلت البريئة ولا تدري بأي ذنب قتلت سوى أنها ابنة لكائن مزدوج، يخرج على الناس بقناع الدين، ويدخل إلى بيته بقناع إبليس، لو عاش ابن رشد لكأني به يقول: «وهذه الرجال بعينها سبب شقاء المدن وهلاك نسائها بؤساً». وليس مهماً أن يكون بيننا من في حكم الرجل الجاهل أو غير الفاضل وغير العادل، فأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان ومجتمع، أمّا أن تتبوأ المناصب مثل هذه النوعية وتتسيّد الناس، فلك أن تتصوّر حال العباد والبلاد معهم ومن عقبهم! لذلك نحن كمجتمعات عربية وخليجية، وسعودية تحديداً، بحاجة شديدة إلى العقلانية، وترجمة واقعنا ترجمة علمية صحيحة، لا خيال فيها ولا مثالية ولا محسوبية، فكل من يشتم فيه ملامح الجهل والعناد، وإن حاز أعلى الدرجات العلمية، فلا بد أن يُحصر شره بتقييد سلطاته، وأولها على أهل بيته بالقوانين الرادعة، أم هل نظن أن المجتمعات الغربية ليست محشوة بأمثالنا من المتخلِّفين والمدّعين؟ ولكنهم يمتازون عنا بتنظيمهم الحاسم لواقع النفس الإنسانية المعقدة، فلا تترك ب«سيكوباتيتها» تعيث فساداً وإجراماً، ويرحب بها ويفسح لها في المجالس باسم الشيخ والداعية ورجل الوزارة ورجل الأعمال، فكل هؤلاء قيمتهم في أخلاقهم وأعمالهم الإنسانية وإنجازاتهم الحضارية، قيمتهم لا في اسم القبيلة الفلانية، ولا في واسطة الخلفية العلانية، ولا في التمسّح بالعباءة الدينية، وهنا دور الوعي العام في التفنيد. والآن، وبالحديث عن منسوب الوعي، وإعطاء كل ذي حق حقه، فما عقوبة الرجل الذي تسبّب في مقتل ابنته؟ جاء في الحديث النبوي: لا يُقتل الوالد بالولد، وفي رواية لا يُقاد الوالد بالولد، ومنها أنه تلزمه الدية، ويروى في ذلك كما جاء في الموطأ وابن ماجه: أن أبا قتادة رجل من بني مدلج قتل ابنه، فأخذ منه عمر مائة من الإبل، ومنها أنه لا يرث من مال ابنه القتيل ولا من ديته، كما قال عمر وعلي رضوان الله عليهما، وكما أجمع عليه العلماء، ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس للقاتل من الميراث شيء»، إذاً فكيف سيعاقب الرجل؟ بدفع الدية؟ ولمن سيدفعها؟ أللأم المطلقة المكلومة؟ وما ميراث هذه الصغيرة ليعاقب الأب فلا يقترب منه؟ ولا أقول إلاّ إن الله رحمها، فقبض روحها على أن تعيش وتقاسي المهانة والعذاب على يد هذا الأب الشقي، ولن أصفه بالمريض كأول تبرير يتبادر إلى ذهننا، فإذا على التمسّح بالمرض النفسي، فكم نسبة الأصحّاء فينا؟ ثم ما تعريفنا للصحة النفسية أولاً؟ حين أشار ابن رشد إلى حال العبودية التي ربّينا عليها بناتنا ومن ثم نساءنا، فأتلفت مواهبهن، وخسرت البلاد معها مشاركة نسائها الفعّالة، فلم يجانبه الصواب، بل هي الأفكار الإصلاحية المعاصرة ذاتها التي نادى وينادي بها رواد الإصلاح الاجتماعي، بالنبرة نفسها والغيرة على واقع المرأة العربي المزور نفسه، فنظرة ابن رشد التقويمية للمرأة فيها كثير من الحداثة ومن الصدق أيضاً، إذ تصور المرأة ككائن عاقل حر، فهي إن كانت من دون الرجل من حيث بعض القوى، غير أنها تزيده في بعضها الآخر، إنما المحك دائماً في إطلاق جناحيها من القيود المتخلِّفة، إطلاق تردعه القوانين المنظمة إن جنحت المرأة أو أخطأت، أمّا أن تُستعبد وهي التي خلقها الله حرة كريمة، فهذا هو الظلم بعينه، وسيسأل عنه ظلاّمها. كاتبة سعودية [email protected]