«اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف»، بهذه العبارة أشار رولان بارت إلى تنبؤ الشاعر الفرنسي «مالارميه» بضرورة وضع اللغة نفسها مكان ذاك الذي اعتبر مالكاً لها، في إشارة واضحة إلى المؤلف. والواقع أن رولان بارت - الذي ضمّن هذا التصور في مقالته «موت المؤلف» في كتاب «نقد وحقيقة» بترجمة منذر عياشي - أراد أن يكسر سلطة الكاتب على النص، التي ساهمت المدرسة النقدية الكلاسيكية بشكل كبير في تضخيم دوره وظلاله على مقصديّة النص، مما حجّم موارد المعنى في النصوص، وقيّد أدوات التأويل، التي قد تسيّر النص إلى غاية واحدة، ستحد بالتأكيد من اتساع لذة النص، وذلك دائماً بحسب مشروع رولان بارت حول هذه المسألة بالذات. وانطلاقاً من تصور بارت السابق، فهو يمهد لأن «يصبح معنى الكتابة بلوغ نقطة تتحرك فيها اللغة وحدها، وليس الأنا» حسب تعبيره، لتصبح اللغة عبر الكتابة بعد ائتلافهما معاً نصاً كونياً خارج إطار الذات وحتى الثقافة القومية أو الخاصة. وفي محاولته لنفي صلة الكاتب بنصه يقول: «إن الكاتب لا يستطيع إلا أن يحاكي حركة سابقة له على الدوام، من دون أن تكون هذه الحركة أصلية» وأظن أن الدلالة على انتفاء الأصالة تصلح أن تطلق على حركة الكاتب والحركة السابقة وهكذا إلى ما لا نهاية. وقبل الانتهاء من تفكيك تصور بارت عن موت المؤلف الذي يمهد لفرضيتنا هنا، أشير إلى أن بارت قد اعتمد في كسره لسلطة الكاتب المؤلف على سلطتين خارجيتين تنزع حق الكاتب في نصه، الأولى هي حركة النقد الحديث التي اتكأت على النظرية البنيوية وعلم اللغة، والثانية هي فعالية «القارئ» التي نشأت في ظل نظريات عديدة من مثل نظرية التلقي، يقول بارت: «يجب قلب الأسطورة، فموت الكاتب (المؤلف) هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القراءة». وانطلاقاً من هذا التوضيح الأخير نباشر في وضع أسس الفرضية التي تطرحها هذه المعالجة، فاعتماداً على الحركة أو السلطة الثانية (القارئ) لنزع سلطة المؤلف قامت جدلية النص الكوني الذي أفرزه انتحار المؤلف كما سنبين لاحقاً، إذ إن تجارب الكتابة الجديدة قامت في الأساس على توجه قرائي جارف، من قبل الشباب بعد انفتاح مصادر التلقي الأدبي والإبداعي، منذ نشأة «الإنترنت» وتشكيل المنتديات والمدونات، وصولاً إلى «الفيسبوك» و«تويتر» الآن، فأنتجت هذه الحركة القرائية الشغوفة تصوراً إبداعياً متداعياً من شتى طرائق الكتابة في العالم، محملة بالحمولة الثقافية الحاضنة لتلك الإبداعات، سواء أكان فيما يخص الشعر الحديث أم القصة أم النص غير المصنف، وبالتالي أنتج هذا الاحتكاك نصاً خارجاً عن تشكلات الهوية الذاتية، وفي الغالب كان هذا النص قادماً من أغوار اللاوعي الذي لا تسيطر عليه نزعات الذات ولا مراقبته، كي تقحم فيه دلالات «الأنا»، وكأن هذه الواقعة العولمية على مستوى الأدب والكتابة تدفع الكاتب أو المؤلف لانتزاع حق السلطة من جديد، ولكن هذه المرة على هيئة انتحار المؤلف نفسه، وكأنه بذلك يردد المثل القديم في وجه النقد الجديد والقارئ: «بيدي لا بيد عمر». وسنستعرض فيما يلي بعض النصوص التي لو جردت من أسماء مؤلفيها لطَفَا النص على سطح الكونية التي تشير إلى انصهار النصوص كلها في نص واحد يغذي الجميع. وسأعتمد استراتيجية معينة في عرض النصوص كي تظهر الدلالة على هذه الفرضية، إذ سأشير لأسماء المؤلفين في هامش المقال. النص الأول: «الأغنية التي تنطلق من النافذة الصغيرة/ تملأ الشوارع/ وتعبر عيون المارة/ وتحك جدران البيوت/ وتماماً/ تحاصر المدينة».* في هذا النص، المدينة كل مدينة، والأغنية كل أغنية، لم تعد هناك إشارة لذات الكاتب، غير رهافته التي تسكن الإنسان وليس الذات. النص الثاني: «لو أستطيع وضع رأسي على طاولة ثم أذهب للنوم/ أخرج قلبي من مكانه/ أعلقه على النافذة../ لديّ عشرة أصابع../ عشرة أصابع/ لا تطير!!».** كلنا ذلك الشخص، لا تطير أصابعه، يتمنى ذلك لكنه يريد أن ينام على الطاولة، ينهك إنسان هذا العصر الأرق وقلبه الذي يحمله في صدره، وأيضاً ليس ثمة أي إشارة منطقية للخصوصية، ولا حتى أي إشارة واضحة لجنس الكاتب. النص الثالث: «الغابة الآن أكثر أدباً من المدينة/ الأسد الآن أنظف من هرقل/ قطيع الغزلان سعيد وغير مهتم/ الطيور في السماء بدون قيود على حريتها الشخصية».*** يتخلص الكاتب هنا من أي معنى يحمله في داخله، إنه يقذف بالنص في وجه القارئ ولا يترك له الفرصة في انتزاعه، لا حصر للمعنى، لقد تخلى المؤلف عن نصه تماماً. النص الرابع : «الكلمات المأخوذة بفقدٍ بارد تتوجس مما قد يأتي منتصف المساء... من رأس أحمق يطرق باب الحجرة: أنا هنا ثالثكم في هذه الخلوة البائسة».**** كم من الصور التي أودعها المؤلف هنا، الصور الشفافة التي لا ترى، أو بالأحرى التي لم يرها هو، التي تخلى عنها، التي أطلقها بعزل نفسه عنها؟. لسنا بحاجة لأن نقتل المؤلف، نحن جماعة النقاد وجماعة القراء، لقد كفانا هذه المهمة، وأسس الكتابة الجديدة، التي تعيد له سلطته وسطوته، متوجاً على عرش الأدب مرة أخرى، عبر هؤلاء الشباب الجدد، والتي تعبّر عنهم هذه الكتابات التي في مجملها عبارة عن التجارب الأولى للكتابة والنشر، وإني هنا أتساءل بطريقة خبيثة، هل سيلتزم الكتّاب الجدد بما ألزموا أنفسهم به، أم أن معترك الكتابة والقراءة والظهور والشهرة ستدجنهم ليسقطوا في فعل المحاكاة السلبي، لكن المهم أن المؤلف اختط سبيله بنفسه، ولم يسلم مصيره لغيره. * محمد السعدي: جغرافيا شخصية، دار الغاوون. ** سمر الشيخ : انشقاق، الدار العربية للعلوم ناشرون. *** ماجد الثبيتي: القبر لم يعد آمناً، طوى. ****نور البواردي: النصف المضيء من الباب الموارب، دار الغاوون.