أنا جالس الآن عند الحلاق، شخص ما يناولني عدداً من مجلة «باري ماتش». على الغلاف صورة شاب أسود مرتدٍ بذلة جنديّ فرنسيّ ويرفع يده بالسلام العسكري فيما عيناه شاخصتان إلى أعلى تحدقان من دون ريب في إحدى ثنايا العلم الفرنسي المثلث الألوان. هنا يكمن معنى الصورة وجوهرها. وسواء كان هذا الأسلوب ساذجاً أو غير ساذج، فإنني أرى جيداً ما يدلّني عليه إنه يقول: «إن فرنسا إمبراطورية كبيرة، وإن كلّ أبنائها، من دون تمييز في اللون، يخدمونها بأمانة تحت لوائها، بحيث إنه لن يكون ثمة جواب على كل الذين يناهضون نزعة كولونيالية مزعومة، أفضل من شطارة هذا الشاب الأسود وهو يخدم مضطهديه المزعومين». تشكل هذه الفقرة جزءاً من «مقال» يأتي ضمن عدد لا بأس به من المقالات التي بات مجموعها يعرف منذ عام 1957 باسم «أسطوريات»... وهو العنوان الذي اختاره المفكر الفرنسي رولان بارت للكتاب الذي جمع فيه تلك المقالات التي سرعان ما تحولت لتصبح النصوص الأشهر والأكثر شعبية بين مؤلفات هذا الفيلسوف وعالم السيميولوجيا والناقد الأدبي الذي عمل منذ الستينات على الأقل على وضع الفكر الفرنسي في مكانة متقدمة في الحركة الفكرية العالمية جنباً إلى جنب مع ميشال فوكو وكلود ليفي شتراوس وجاك لاكان وآخرين من أبناء جيل أتى تالياً لجيل جان بول سارتر وريمون آرون. وهو الجيل الذي سيقال دائماً إن افكاره ساهمت في خلق القاعدة الفكرية التي بُنِيَ عليها تحرك الشبيبة الفرنسية في أيار 1968. غير أن هذا موضوع آخر لن نتوقف عنده بإسهاب هنا. ما يهمنا هنا هو ذلك الكتاب الذي تلقفه القراء والمفكرون لينطلقوا منه في تيارات دراسية كما فعلوا مع كتب ونصوص متزامنة معه، مثل «أميركا» لجان بودريار «نجوم السينما» لإدغار موران. في شكل عام كانت تلك الكتب نوعاً من المسعى الضمني لتطبيق ميداني لأفكار عامة حول التاريخ وكتابته كانت الشغل الشاغل لمدرسة «الحوليّات» الفرنسية، تربط دينامية التاريخ وتدوينه بشؤون الحياة والمجتمع الصغيرة وبقضايا الحياة اليومية. ولئن سار بارت في هذا السياق، على الأقل، في «أسطوريات»، فإنه في الوقت نفسه إنما صاغ مقالاته انطلاقاً أيضاً من نزعة نضالية كانت تقوم لديه في مناهضة ما كان يعتبره «تفاهة التفكير البورجوازي»... ولعل ما يفسّر هذا أن المقالات التي تضمنها الكتاب، كانت نشرت أصلاً كمقالات أسبوعية في مجلة «الآداب الفرنسية» اليسارية، ولكن قبل صدورها في الكتاب بسنوات قليلة. وكان ذلك بالتحديد بين عامي 1954 و1956 حين كان بارت لا يزال في بداياته، وطلبت إليه المجلة أن يكتب زاوية يربط فيها بين ما هو فكري وما هو اجتماعي. على الفور يومها فكّر بارت في أن خير ما يفعله هو رصد الحياة اليومية ولا سيما كما تنعكس في الصحافة الشعبية وعلى شاشة التلفزيون وفي الأفلام السينمائية وفي الممارسات الاستهلاكية، وذلك بحثاً عن دلالة هذه الأشياء «والكيفية التي تتحول بها إلى أساطير»... وكيف تتحول الأساطير لارتداء بعد مفهومي دلاليّ كان هو ما جعله يطلق على المجموعة اسم «أسطوريات» بدلاً من أساطير، علماً أن الكتاب ضمّ كتذييل لموضوعه، بحثاً نظرياً صار شهيراً هو الآخر، وفي شكل مستقلّ ربما، عنوانه «الأسطورة اليوم». في تقديمه للكتاب الذي ضمّ في نهاية الأمر ثلاثة وخمسين نصاً – إضافة إلى النص النظري – قال بارت «لقد كان في إمكان مادة هذا الكتاب أن تكون شديدة التنوّع (مقال صحافي، صورة في مجلة أسبوعية، فيلم، استعراض، معرض) والموضوع فائق التعسفية... ولكن، من البديهي أن كل هذا إنما هو انعكاس لحياتي الراهنة». أما لاحقاً وفي معرض حديثه عن هذا الكتاب في عام 1981 فسيقول بارت في حديث ضمه كتاب جامعٌ أحاديثَه الصحافية عنوانه «حبة الصوت»، إن «... ما شغلني دائماً إنما هو مسألة دلالة الأشياء الثقافية (...) فأنا في الحياة اليومية أشعر بنوع من الفضول إزاء كلّ ما أراه أو أسمعه، وربما أقول إنني أشعر بتأثر ثقافي ذي طابع رومانسي... ». والحقيقة أن من يطالع مقالات «أسطوريات» سيلمس هذا البعد ولا سيما في التفاصيل الصغيرة. غير أن هذه الرومانسية سرعان ما تتحوّل تحليلاً معمّقاً وساخراً حين يتوقف الكاتب عند ما كان يراه «الحس البورجوازي الصغير» سواء كان تلمس ذلك في استخدام صابون معيّن للغسيل، أو في خطاب بوجادي لزعيم يميني متطرف، أو في مشاهد التعرّي في الكباريهات، أو في تصنيع لعب الأطفال وانتشارها أو حتى في علبة سجائر «الغولواز» أو في التصميم الجديد لسيارة «سيتروين»... إن كل شيء من هذه الأشياء يعطي بارت فرصة لتحليل العلاقة بين غرض تحليله والذوق العام... ولا سيما لدى الجمهور المستهدف قبل غيره بالدعاية المنتشرة لترويج هذا كله. والحال أن تحليل بارت يتجاوز مجرد كونه سبراً للعبة الاستهلاكية: هذه اللعبة ليست سوى جزء من الإطار العام لديه. هذا الإطار يركز هنا على الكيفية التي يحوّل فيها كل شيء من الأشياء التي يدرسها إلى أسطورة... وعنده أن هذا التحويل هو الفعل الأساس الذي يمارس على الأذواق العامة – لدى البورجوازية الصغيرة في شكل عام – ما يخلق ذلك الإنسان الذي لن يلبث المفكر الألماني/ الأميركي هربرت ماركوزه أن يطلق عليه اسم «الإنسان ذو البعد الواحد». والحقيقة أنه إذا كان بارت يلامس هذا البعد النظري – واحدية الفرد في المجتمع المعاصر وتشييئيته - في النص النظري الملحق بالكتاب، فإنه في نيّف وخمسين نصّاً يتكون منها المتن، يفضّل الغوص الميداني في هذه القضية. فهو يعرف بعد كلّ شيء أنه إنما يكتب لقارئ أسبوعي، لكنه يعرف في الوقت نفسه أنه يضع هذا القارئ – وقارئ «الآداب الفرنسية» في ذلك الحين لن يكون قارئاً عادياً على أية حال – على تماس مع تلك «الحياة اليومية» التي يسبرها ليستخلص منها قواعد ستخدم الكاتب كثيراً لاحقاً في اشتغاله على النقد والسيميولوجيا. وما التنوع المدهش في المواضيع – الأشياء – التي يتطرق إليها بارت في المقالات، سوى إشارة إلى التنوع المقبل في مواضيع دراساته. فهو هنا، وبعد أن يتناول شؤون الاستهلاك عبر ثماني مقالات، نراه يصل إلى شؤون الأدب واللغة عبر ثماني مقالات أخرى منها ما يتعلق بالكاتب وإجازته أو بالرواية والأطفال أو بالنقد الذي لا يريد أن يقول شيئاً أو بقواعد اللغات الأفريقية... إلخ. وهو بعد ذلك يكرس ست مقالات لشؤون ثقافية عامة كالميزكهول وغادة الكاميليا و «علم» الفلك... أما التصوير الفوتوغرافي وأثره المباشر على المتلقين فيتناوله في خمس مقالات لعل أجملها ذاك الذي يتحدث فيه عن ظاهرة «ستوديو هاركور» وهو ذلك الستديو الشهير الذي كان مختصاً في التقاط «بوزات» لنجوم السينما حيث – وكما يقول بارت – «لم يكن في إمكان النجم أن يعتبر نفسه نجماً إن لم يتصوّر لدى هاركور» (!). وفي السياق النجومي هذا نفسه يتحدث بارت عما لا يقل عن ثلاثة من أشهر أبناء زمنه: الأب بيار وغريتا غاربو، مركزاً حديثه على «الغموض المشغول بعناية لملامح وجهها»، قبل أن ينتقل للحديث عن «دماغ آينشتاين». وعلى هذا المنوال نفسه يسير بارت في ما يلي ذلك من مقالات حيث يتناول الأغذية والدعاية لها، وبعض الأحداث الجنائية والقضائية كما تناولتها الصحف – ولا سيما قضية دومنتشي التي ستخصّ لاحقاً بفيلم سينمائي يقوم فيه جان غابان بدور الأب القاتل - من دون أن ينسى هنا الحديث عن الداعية الديني الأميركي بيلي غراهام لمناسبة مروره في باريس... وكذلك نراه لا ينسى الرياضة فيتحدث عن الملاكمة وكرة القدم... أو السياسة فيتناول الزعيم الشعبوي بوجاد... في هذه السياقات كلها، لا ينسى بارت أنه ليس هنا لاستعراض هذه الأمور وإنما لتحليل تلقّيها والطريقة التي أريد بها أن يكون ذلك التلقي، بحيث سرعان ما تتحول إلى دلالات ولا شك في أن هذا المسعى الذي اشتغل عليه رولان بارت (1915 - 1980) سيكون له تأثير كبير لدى الباحثين بل حتى لدى المبدعين، حيث إن مفكراً من طينة غي ديبور، كتب كثيراً عن عصر الاستعراض، لم يفته أن يعلن دين بارت عليه، وكذلك سيكون حال مبدع كبير من وزن جان لوك غودار، الذي جعل جزءاً من سينماه أشبه بتطبيق لتحليلات صاحب «أسطوريات» ولا سيما في فيلمه «3 أو 4 أشياء أعرفها عنها». وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد الإشارة أخيراً، إلى أن معظم ما اشتغل عليه بارت في هذا الكتاب، سنجده معمّقا وبتخصص أكبر، في معظم كتبه التالية سواء كانت في النقد الأدبي أو في شؤون الموضة أو في النقد المسرحي أو حول الفوتوغرافيا... [email protected]