منذ أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار (مارس) الماضي عبارته الشهيرة التي حذر فيها من نشاط «الطابور الخامس» في البلاد، بدا أن المعارضة الروسية تقف على أعتاب مرحلة جديدة في علاقاتها بالسلطة والمجتمع. إشارة بوتين إلى نشاط المعارضة كانت لها أهمية ظرفية خاصة، فهي جاءت في «خطاب القرم» بحسب التسمية التي باتت تطلق على رسالة بوتين أمام المشرعين الروس التي اعترف فيها بنتائج استفتاء الانفصال في شبه الجزيرة وأعلن عزمه على التوقيع على قرار ضم القرم. منذ تلك اللحظة، وعلى خلفية تصاعد المواجهة مع الغرب، اتجهت السلطات للإفادة إلى أقصى درجة ممكنة من حال المزاج الشعبي الملتف حول سياسة الكرملين لضرب ما تبقى من نفوذ للمعارضة الليبرالية، بينما سعت في المقابل إلى استخدام التيارات القومية لخدمة أغراضها إلى أقصى درجة ممكنة. وفي إطار حملتها ل»تنظيف» البيت الداخلي من «عملاء الغرب» بهدف «تعزيز قدرة البلاد على الصمود في معركة العقوبات والعزلة الدولية» كما يقول نواب في البرلمان، شهدت روسيا تسارعاً غير مسبوق في سن قوانين جديدة تقيد نشاط المعارضة وقدرتها على التواصل مع المجتمع عبر وسائل الإعلام أو حتى على الشبكة العنكبوتية. وليس من قبيل الصدفة أن يعتبر قانون تم استحداثه مدونات بعض الناشطين «وسائل إعلام ينبغي ترخيصها وتخضع لقوانين الرقابة على الإعلام». وحملت سلسلة القوانين الجديدة شعارات تعزز رقابة الدولة على الجهات المدعومة من خارج البلاد بشكل يقلص مجالات المناورة أمام المعارضة أو أمام محاولات التدخل الخارجي في الحياة السياسية الداخلية. وعلى رغم أن هذه العملية كانت بدأت في وقت مبكر منذ صيف العام الماضي، شهدت الشهور الأخيرة، وتحديداً بعد قرار ضم القرم، تسريعاً لوتيرتها بشكل غير مسبوق، إذ تم تسجيل العشرات من مشاريع القوانين أو التعديلات القانونية في مجلسي الدوما والفيديرالية (الشيوخ) ومنها قانون يسمح لأجهزة الأمن والشرطة بالتصدي بكل الوسائل بما في ذلك إطلاق النيران الحية في حال تعرض عناصر الأجهزة إلى خطر مباشر، ويسمح القانون باستخدام الذخيرة الحية حتى لو كانت المواجهة تجرى في مناطق يتواجد فيها مدنيون خلافاً للقانون السابق الذي كان يحظر استخدام السلاح الحي في حال وجود مدنيين. بالإضافة إلى تشديد القيود على التظاهر وتنظيم الاعتصامات، يرفع القانون في صيغته الجديدة درجة العقوبات على مخالفي قوانين التظاهر والاعتصامات من الحجز لمدة 14 يوماً كما نص القانون السابق إلى السجن لفترة تصل إلى خمس سنوات. ما يعني تحويل قانون التظاهر من بند «المخالفات الإدارية» إلى بند «الجرائم الجنائية». وحدد القانون هذه العقوبة بأنها «السقف الأعلى ويمكن اللجوء إليها في حال أسفرت المخالفة عن أعمال شغب أدت إلى فوضى ووقوع ضحايا». وهذا استباق واضح لاحتمال تكرار أحداث العاصمة الأوكرانية كييف. وكذلك جاء قانون «العملاء الأجانب» الموجه لتقييد نشاط المنظمات غير الحكومية التي تتلقى دعماً مالياً مباشراً أو غير مباشر من جهات أجنبية، ويجري النظر في تعديلات على القانون تمنح وزارة العدل صلاحيات واسعة في تبني إجراءات مباشرة ضد المخالفين بحسب رؤيتها لحجم الضرر الواقع من المخالفة، بينما كان ذلك موكلاً إلى القضاء سابقاً. بالإضافة إلى تعديل قانون أمن المطارات بالسماح للسلطات المختصة بإغلاق الأجواء ووقف العمل واستئنافه وفقاً لمتطلبات الموقف ومن دون انتظار قرار من رئاسة الوزراء كما كان القانون ينص في السابق. كما تم تعديل قانون الجنسية للروس المقيمين خارج الحدود بشكل يسهل إجراءات الحصول على الجنسية الروسية لكل من يثبت أنه من أصول روسية في العهد السوفياتي بصرف النظر عن بلد إقامته أو درجة إتقانه اللغة الروسية. وعلى الصعيد الاقتصادي نص قانون التعاملات المصرفية مع مواطني البلدان الأجنبية على ربط المصارف الروسية بهيئة الهجرة والاغتراب، وهو يفرض على المصارف مراجعة سجل الهجرة عند تقدم أجنبي بمعاملة في أي مصرف روسي للتثبت من شرعية إقامته في الأراضي الروسية. بالإضافة إلى كل ذلك تسارعت وتيرة تبني قوانين جديدة لآليات تنظيم الأحزاب، وعمل وسائل الإعلام، لكن أخطر القوانين الجديدة وأشدها تأثيراً هو المتعلق بمكافحة «تشجيع ودعم التطرف» وتحت هذا العنوان يضع القانون الجديد قيوداً صارمة على التحويلات المالية خوفاً من حصول أطراف في المعارضة على دعم خارجي. لكن سن القوانين الجديدة التي ما زال عشرات منها في أدراج الكتل النيابية أو تم تسجيل بعضها للمناقشة خلال الموسم النيابي المقبل، لم يكن السلاح الوحيد الذي تم توجيهه لإضعاف مواقف المعارضة وحشرها في زاوية الابتعاد عن النشاط السياسي أو الوقوع تحت طائلة الملاحقة الجنائية. فالأكثر فتكاً من سلاح القوانين، هي الحملات المنظمة إعلامياً والنشاطات القوية من جانب أطراف ظهرت فجأة ووضعت هدف محاربة «الطابور الخامس» في البلاد، على رأس أولوياتها، وهذا ما عكسته «اللوائح السوداء» التي تم توزيعها في الأسابيع الأخيرة واحتوت على أسماء عشرات المعارضين البارزين الذين اعتبروا خطراً على استقرار البلاد وأمنها، وبينها اللائحة التي تم توزيعها على وسائل الإعلام أخيراً، على شكل بطاقات بريدية حملت صور وأسماء 49 ناشطاً من السياسيين ورجال الثقافة والإعلام «المطلوبين» وأطلقت عليهم تسمية: «الطابور الخامس..غرباء بيننا». واعتبر الموزعون أن الأشخاص المسجلين «يعملون لهدم أركان الدولة وخدمة أغراض الأعداء ولا بد من تعريتهم عبر نشر أسمائهم في البلاد». اللافت أن توزيع «لوائح العار» تزامن مع قيام الأجهزة الأمنية بحملات دهم لعدد من البيوت ومكاتب المعارضين، وخصوصاً المجموعات المقربة من الناشط أليكسي نافالني الذي يقضي حاليا حكماً بالإقامة الجبرية في منزله, واشتكى أنصار نافالني من أن عمليات الدهم لم تطاول منازلهم فقط بل منازل ذويهم وأقاربهم. واعتبر معارضون أن التطورات التي تشهدها البلاد والمزاج العام الذي تمت تعبئته بقوة شكلا أسوأ اختبار لقدرة من يخالف الكرملين في الرأي على الجهر بمواقفه، ودفع ذلك بعض رموز المعارضة البارزين ومنهم السياسي بوريس نيمتسوف الذي كان نائباً لرئيس الوزراء في عهد الرئيس السابق بوريس يلتسن إلى إصدار إعلان نعي لمفهوم المعارضة في روسيا في المرحلة الحالية على الأقل، وأعرب عن تشاؤم عكسته تأكيدات أن «المعارضة دخلت حال موت سريري ولا جدوى من محاولات إنعاشها حالياً». وبنى السياسي الذي صادرت السلطات أخيراً كتابه «فلاديمير بوتين... عشر سنوات في السلطة» وفيه نقد قاس لسياسات بوتين، موقفه على فكرة أن المعارضة في روسيا غدت أشبه بعملية انتحارية. لذلك فهو يرى أن مفهوم «الانشقاق عن السلطة» الذي ميز نشاط المعارضة في العهد السوفياتي عاد إلى الحياة. وأوضح: «صحيح أنه، خلافاً للعهد السوفياتي، لا توجد حالياً غرف اعتقال وتعذيب لكننا نعيش في القرن ال 21 والحملات التي نتعرض إليها منذ الحرب الإعلامية الضخمة التي رافقت ضم القرم ليست مسبوقة». ويعتبر نيمتسوف أن توسيع قاعدة «الانشقاق عن النظام» له مخاطر عدة لكن المنشقين لا خيارات أمامهم، وهم «لا يختلفون كثيراً عن المنشقين السوفيات الذين وجدوا أنهم ليسوا قادرين على خوض الصراع على السلطة، ودافعوا عن مبادئهم مغامرين بحرياتهم وحياتهم في بعض الأحيان». يشير نيمتسوف بتلك المقارنة إلى حملة إعلامية واسعة بدأت في آذار الماضي استهدفت المعارضين لسياسة الكرملين في أوكرانيا، وأطلقت عليهم تعبيراً غدا الأوسع انتشاراً، فهي ميزتهم بعبارة «ايناميسلوشي» التي تعني بالترجمة الحرفية عن الروسية: «الذين يفكرون بطريقة أخرى». وزاد إن حملات الدهم والتنكيل التي طاولت أخيراً عدداً من المعارضين دلت إلى أن السلطة قررت تجاوز الخط الأحمر الأخير، وأنها لم تعد ترغب، ولو شكلياً، في الحفاظ على فكرة التعددية، وانعكس ذلك بتزايد عدد «المنشقين» الهاربين من البلد، باعتبار أن «الحياة نعيشها مرة واحدة وكثيرون لا يريدون أن يقضوا سنوات خلف القضبان». ويبرر نيمتسوف المقارنة التي يعقدها بأن المعارضة التقليدية حالياً لم تعد قادرة على خوض المنافسة السياسية في البلاد عبر صناديق الاقتراع. والسبب أن مؤسسة الانتخابات نفسها معطلة وتعمل لحساب حزب وفريق واحد. في المقابل حذر السياسي الليبرالي من أن غياب المعارضة بهذا الشكل له مخاطر كبرى على البلد، مطلقاً وصفاً قاسياً على السلطة التي اعتبر أنها «سلطة حتى آخر قطرة دم وآخر غالون نفط». ويوافق سيرغي الكساشينكو مدير مركز أبحاث السياسات الاقتصادية التابع لمعهد الاقتصاد العالي نيمتسوف رأيه في خطورة غياب المعارضة عن المشهد السياسي في البلاد، ملاحظاً أنه «في روسيا لا حياة سياسية، ولا فرصة لأي طرف باستثناء حزب السلطة ولا رقابة نزيهة على الانتخابات ولا قضاء يقبل شكاوى المعارضين وفريق الكرملين يريد أن يحافظ على كل مقاليد السلطة في قبضته إلى حين، وهذا خطر جداً في بلد هش ينهشه الفساد والأطراف التي تعمق هذه الحال لا تدرك أنها تؤسس أرضية لحرب أهلية». لكن فكرة «الانشقاق» التي وجدت اتساعاً خلال الشهور الأخيرة تمثل في انتقال عشرات المعارضين للإقامة في بلدان أوروبية تبدو رائجة بقوة عند السياسيين الذين عايشوا مرحلة الانهيار والتحولات الكبرى التي شهدتها البلاد منذ وصول بوتين إلى السلطة، بيد أنها ما زالت مرفوضة من جيل الشباب من أنصار التيار الليبرالي الديموقراطي. وبحسب الناشط ايليا ياشين القيادي في حركة «بارناس» (التي أسسها نيمتسوف) فإن على المعارضة مواصلة المواجهة في الداخل بدلاً من الانكفاء أو مغادرة البلاد، وعلى رغم تذمره من القوانين والتشديدات على نشاط المعارضة يرى أن «علينا استخدام كل الوسائل الممكنة من نشر الأفكار والكتابة والترويج إلى النزول إلى الشارع إلى المشاركة في انتخابات حتى لو كانت نتائجها محسومة سلفاً». في المقابل، يرى غليب بافلوفسكي رئيس صندوق «السياسة الفعالة» القريب من الكرملين، أن الحملات القاسية ضد المعارضين لا تشنها السلطة نفسها، بل مراكز قريبة منها ترى أن في مصلحتها توسيع الهوة بين المعارضة والسلطة، لتبقى وحدها القادرة على التحكم بسير الأحداث ومنح السلطة «التصور الذي تراه مناسباً للأحداث». يلمح الباحث بذلك إلى أوساط حزبية وبرلمانية من القوى التي توصف بأنها «المعارضة المدجنة»، ويشدد في الوقت ذاته على خطأ إدانة السلطة وحدها باعتبار أن المعارضة بدورها «لم تنشط كما يجب». ويفسر ذلك بالقول إنه «مهما كانت هراوة السلطة ثقيلة لماذا لم ينجح المعارضون في تأسيس قوة فعالة في البلاد»؟ كما يخالف بافلوفسكي منطق المعارضين حول مبدأ الانشقاق، مذكراً بأن «المنشقين السوفيات كانوا يعبرون عن قطاعات واسعة مكبوتة لكن منشقي اليوم لم يعملوا في الشارع جيداً لكسب التأييد».