في حمّى انشغال العالم بأنفلونزا الخنازير، التي ذكّرت بضآلة ما يملكه العلماء من وسائل في مجابهة الفيروسات وأوبئتها، التمع انجاز علمي في جامعة «نورث كارولينا» الأميركية، لينقل المجابهة مع تلك الجراثيم الى مستوى أكثر إثارة وتفاؤلاً وتعقيداً. والمفارقة أن الإنجاز جاء في إطار الجهود الصامتة التي تُبذل منذ العام 1982، في مكافحة فيروس «قديم» نسبياً، هو فيروس «أتش أي في» الذي يسبّب مرض الإيدز، إذ ربما نسي كثيرون أنه يصيب أكثر من 35 مليون إنسان. وعلى رغم خلو «الخريطة الكبرى» التي رسمها العلماء للمرة الأولى للتركيب الجيني الكامل لفيروس الإيدز (تُسمى تلك الخريطة تقنياً «الجينوم»)، من التفاصيل الدقيقة لتلك الجينات، إلا أن الإنجاز يفتح المجال لمعرفة الطريقة التي يتصرّف بها فيروس «أتش أي في»، والتي مكّنته الى حد الآن من مخادعة الأدوية التي صنعت للقضاء عليه، إضافة إلى أنها سهّلت انتشاره بين البشر. وينطبق الأمر عينه على الفيروسات التي تسبّب شلل الأطفال وأمراض الكبد و... الإنفلونزا أيضاً. إذ تتشارك هذه الأنواع من الفيروسات الوبائية بأن تركيبها الوراثي يرتكز على الحمض النووي الريبوزي المُسمى «ار أن إيه». ولربما فتح الإنجاز الأميركي درباً غير مطروقة قبلاً لفهم وباء فيروس «أتش1 أن1» («أنفلونزا الخنازير»)، الذي يتوقع ان يصيب عشرات الملايين خلال الشهور المقبلة. ويعطي الإنجاز عينه دفعة قوية لجهود مقاومة التهاب الكبد الوبائي، خصوصاً النوع «سي»، الذي يسبّبه فيروس من نوع «ر ن ا». وللمرة الأولى، تمكن العلماء من رسم الشكل العام الذي ترتصف فيه المُكوّنات الجينية في فيروس «أتش أي في»، بدل الاكتفاء بمعرفة كيفية تراصفها، كما كانت الحال سابقاً. ولذا، شبّه الاختصاصي في الفيروسات هاشم هاشمي، من جامعة «ميشغين»، الخريطة التي رُسمت لجينوم فيروس الإيدز بأنها «تشبه صورة أخذت من الجو لمنطقة ما، ثُم كُبّرَت، فظهرت الحدود والمحتويات العامة، لكن التفاصيل الدقيقة لا تزال غائبة»، بحسب مقال نشره موقع «نايتشر» أمس. وفي السياق عينه، بيّن البروفسور كيفن ويكس، الذي شقاد فريق «نورث كارولينا»، أنهم استخدموا أسلوباً جديداً في التعرّف الى الشيفرة الجينية لفيروس الإيدز، حملت اسم «شايب»، ما مكّنهم من رسم الإطار العام لذلك التركيب أيضاً. ويعني ذلك أنه لا تزال أمام العلماء طريق طويلة للتوّصل الى معرفة تكفي لصنع أدوية للقضاء على الإيدز أو إيجاد طرق ناجعة أو لقاحات لمكافحة انتشاره. ووصف البروفسور رون ساونستورم، من «المركز الشامل للسرطان» في جامعة «نورث كارولينا» الوضع بقوله: «لقد فُتِح الباب لمعرفة الطريقة التي يغيّر فيها الفيروس تركيبته، لأن الخريطة عن جيناته مملوءة بالمعلومات... حتى أنه يمكن التلاعب بتركيب هذا الفيروس، ثم مراقبة ردود أفعاله وتحليلها. إنها طريقة لفهم الطفرات التي تحدث في التركيب الوراثي للفيروس، والتي تعطيه قوة الانتشار، وكذلك تجعله مقاوماً لنحو 20 دواء تستعمل في علاجه راهناً». وتتشارك أدوية الإيدز مع العقاقير المستخدمة في علاج الأنفلونزا، مثل «تاميفلو» الذي تُعقد عليه الآمال في صدّ جائحة أنفلونزا الخنازير، في أنها تعمل على ضرب دورة حياة الفيروس وتكاثره. ولذا، قد تساهم بحوث الإيدز في صنع أدوية أكثر فاعلية في مكافحة وباء أنفلونزا الخنازير أيضاً.