لا جدال أن ما تعانيه أغلب الدول النامية ذات الدخول الوطنية المتدنية نسبياً، ليس ارتفاع قيمة عملاتها الوطنية وإنما تدنيها. ولكنه وفي الوقت ذاته، يخطئ من يظن أن ارتفاع قيمة العملة دوماً يخدم المصالح الوطنية العليا لأغلبية مواطني الدول التي قد ترتفع قيمة عملاتها. ولنأخذ مثلين واقعيين لدولتين متقدمتين إلى مستوى ما صار يُسمى أخيراً بمرحلة «ما بعد الصناعية»، وهما سويسرا واليابان. وهما البلدان اللذان لحقت بهما أضرار كبيرة بسبب ارتفاع قيمة عملتيهما، كما سيأتي بيانه، فمنذ عشرات السنين كان البنك المركزي السويسري يترك تقرير قيمة الفرنك السويسري لقوى السوق من عرض وطلب وما هو متوقع عرضه أو طلبه في أسواق المال العالمية. وبما أن الفرنك السويسري بطبيعته وبسجله التاريخي، أكثر استقراراً نسبة إلى العملات الصعبة الأخرى الأكثر تداول،اً كالدولار واليورو، فقد ارتفعت قيمة الفرنك منذ كارثة 2008 المالية نسبة إلى الدولار واليورو، حتى أدى ضغط المصدرين السويسريين على المركزي السويسري لاتخاذ ما يكره البنك المركزي السويسري اتخاذه، ولم يسبق له اتخاذه في الماضي، ألا وهو ربط الفرنك باليورو بسعر ثابت يعطي المصدرين السويسريين فرصة أفضل للحيلولة دون تدفق الودائع الضخمة من الآخرين الذين يبيعون عملاتهم ويشترون بها فرنكات سويسرية، وبذلك يزيد المطلوب من الفرنك فتتصاعد قيمته. نعم كانت مئات البلايين تتدفق من الخارج إلى البنوك السويسرية لشراء الفرنك وإيداعه في هذه البنوك السويسرية، وهذا بحد ذاته أدى إلى تتابع تصاعد قيمة الفرنك السويسري. ولماذا ذلك التدفق؟ السبب الأهم يعود إلى معرفة المضاربين بأن الاتجاه المحتمل لقيمة الفرنك السويسري هو الارتفاع. فالسياسة النقدية السويسرية منضبطة في مستوى انضباط الساعات التي اشتهروا بصناعتها، ولذلك فاحتمال رفع مستوى السيولة في سويسرا عن طريق بنكها المركزي، وبالتالي خفض قيمة الفرنك، غير محتمل. وقد نشرت «الحياة» في هذا الحيز في 6/9/2011 مقالاً تحت عنوان «مأزق الفرنك السويسري»، ومما جاء في ذلك المقال: «ما هي المشكلة بالنسبة الى المواطن السويسري نتيجة لارتفاع قيمة عملته الشرائية؟ ألا يعني ارتفاعها تدني أسعار ما يستورد من سلع وخدمات أميركية المنشأ أو ما يستورده من بترول بنحو 40 في المئة خلال سنوات قليلة؟ غير أن ارتفاع قيمة أي عملة سلاح ذو حدين، فهو يؤدي إلى رخص المستورد، وبالتالي زيادة استهلاكه، كما يؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار الصادرات، وبالتالي كساد بيعها وإلحاق الضرر بكل من له صلة بالصادرات من عاملين ومستثمرين ومقدمي خدمات. إن عمود الوسط بين الأعمدة التي يقوم عليها الاقتصاد السويسري هو الصناعات الدقيقة، كالساعات وآليات تصنيع الصناعات الدقيقة والصناعات الصيدلانية، من أدوية وأدوات تشخيص ومواد تطعيمية، والصناعات الغذائية والسياحة الصيفية والشتوية بكل أنواعها. وأكثرية هذه المنتجات السويسرية لا بد من بيعها خارج سويسرا، أي تصديرها. لكن تكاليف إنتاجها تُدفَع بالفرنك، الذي أدى ارتفاع قيمته إلى انخفاض المطلوب منها خارج سويسرا بسبب ارتفاع قيمة شرائها بالعملات الوطنية خارج سويسرا. إذاً، من الواضح ان ارتفاع قيمة الفرنك السويسري بهذه السرعة الصاروخية خلق صعوبات اقتصادية كثيرة، ما أدى فعلاً إلى انخفاض نسبة نمو دخلها الكلي، أو ما يُسمى ب «الدخل القومي»، من نحو 2.6 في المئة في نهاية عام 2010 إلى اقل من نصف هذه النسبة في صيف 2011. وما حدث للفرنك السويسري حدث للين الياباني، الذي ارتفعت قيمته خلال فترة السنوات الخمس الماضية (2007 الى 2012) نسبة الى الدولار الأميركي بأكثر من 45 في المئة! وهي نسبة عالية جداً، بل خلقت معضلة حقيقية للصادرات اليابانية، فهذه «تويوتا» عملاق صناعة السيارات وأهم مصدري اليابان، تشكو الأمرّين من ارتفاع قيمة الين الياباني، وكذلك فعلت «سوني» وغيرها من كبار مصدري اليابان. واعتماد الاقتصاد الياباني على الصادرات لا يقل عن اعتماد الاقتصاد السويسري، بل إن كل ما حققته اليابان من تقدم مذهل ارتكز بالدرجة الأولى على قدرة اليابانيين على التقليد في مرحلة من المراحل ثم الإبداع، فاستطاعوا منافسة الآخرين بجدارة مشهودة في الأسواق الدولية حينما كانت قيمة الين اقل أضعاف المرات مما هي عليه الآن. وقد يذكر من زار اليابان في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي حينما كان الدولار الأميركي الواحد يساوي أكثر من 250 يناً يابانياً. وفي الشهر السابع من 2012، لا يساوي الدولار الأميركي الواحد أكثر من 80 يناً. * أكاديمي سعودي.