ظلت العلاقة بين الديانتين الإسلامية واليهودية محكومة بكثير من التوجس والحذر، ومحاولات التشكيك من قبل باحثين يهود (عرباً وأوروبيين) في نصوص الإسلام وتفاسيره وعلومه، وصولاً إلى التشكيك في مصدره ونسبة الانتحال إليه من خلال عقد المقارنات المستمرة بين نصوصه وأحكامه، وما تضمنته اليهودية من أحكام ونصوص مشابهة. في المقابل، وعلى رغم ممارسة القرآن وأحكامه النقد الموضوعي لشرائع اليهودية والتوراة، وتبنيه معاملة خاصة لأهل الكتاب، وفق المصطلح القرآني، إلا أن ذلك لم يمنع المفسرين والمهتمين بالقرآن الكريم وعلومه من الاستعانة بتراث أهل الكتاب في تفسير بعض الحوادث التاريخية المتفق على حدوثها، وهو ما عرف لاحقاً في علوم القرآن بالإسرائيليات، والتي توسع المسلمون لاحقاً في وضع شروط الاخذ عن أهل الكتاب وضوابطه. هذه العلاقة الملتبسة بين الجانبين، دفعت الباحث أحمد البهنسي لإصدار كتابه الجديد «القرآن الكريم وعلومه في الموسوعات اليهودية... دراسة نقدية»، والباحث مختص بالشؤون الإسرائيلية، وقد صدر الكتاب عن مركز «تفسير للدراسات القرآنية» بالمملكة العربية السعودية. يحتوي الكتاب على مادة علمية وفيرة تتناول جميع الموسوعات اليهودية، سواء المطبوعة أو الالكترونية، وسواء المكتوبة باللغة العبرية أو الانكليزية، والتي احتوت على مقالات موسوعية حول القرآن الكريم وعلومه المختلفة، يتعرض الكتاب لها بالتحليل والنقد، والرد على ما ورد فيها من فرضيات علمية تطعن في أصالة القرآن الكريم ومصدره الإلهي. يشتمل الكتاب على خمسة فصول، يتعرض الأول منها بالتحليل والنقد لما جاء في الموسوعات اليهودية حول جمع وترتيب الآيات القرآنية، أما الفصل الثاني، فيتعرض بالنقد لما جاء في الموسوعات اليهودية حول رد قصص القرآن الكريم إلى مصادر يهودية ونصرانية ووثنية، أما الفصل الثالث، فينقد ما جاء في الموسوعات اليهودية حول رد عقائد وشرائع القرآن الكريم لمصادر يهودية ونصرانية ووثنية، في حين أن الفصل الرابع ينقد ما جاء في الموسوعات اليهودية حول رد أصول بعض ألفاظ القرآن الكريم إلى لغات أعجمية غير عربية. أما الفصل الخامس والأخير، فينقد رؤية الموسوعات اليهودية الخاطئة لموقف القرآن الكريم من اليهودية والنصرانية. من أبرز النتائج التي توصل الباحث إليها أن اليهود اهتموا اهتماماً بالغاً بالتعرف الى الدين الإسلامي ودراسة مصادره الأساسية، وفي مقدمها القرآن ومحاولة تشويهها وتقديمها للعالم في شكل مُحرف، سواء قبل قيام دولة إسرائيل 1948 أو بعد قيامها، وهذا ما ظهر في إعدادهم موسوعات ليست بلغتهم العبرية محدودة الاستخدام والانتشار، بل باللغة الانكليزية، تلك الموسوعات التي تحوي على مقالات كثيرة حول القرآن الكريم كلها تطعن في قيم الإسلام ومبادئه. كما توصل لنتيجة مفادها أن هذه المقالات الموسوعية اليهودية لم تتسم بالموضوعية العلمية، بل إنها دارت في فلك المطاعن التي ألصقها بعض المستشرقين بالقرآن الكريم من دون الاستناد إلى حقائق علمية ودلائل رصينة ومقبولة. تتمثل أهمية هذا الكتاب في كونه لا يمثل التزاماً دينياً وعلمياً فقط لكونه أحدَ وسائل الدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف ومصادره في شكل أكاديمي وعلمي يتسم بالموضوعية، بل يمثل أيضاً التزاماً قومياً ووطنياً نظراً الى خطورة ما تَهدف إليه هذه المقالات الموسوعية حول القرآن الكريم والإسلام من تشويه صورة الإسلام والمسلمين بغرض تحقيق مآرب دينية وسياسية، على حد سواء. كما أنَّ تَزَايُد الاهتمامَ بدراسة الموضوع مجال الدراسة، وما يتعلق به من دراسات أخرى في مجالات مختلفة، من الممكن أن يؤدي إلى توضيح الصورة الصحيحة للإسلام ومقدساته، وربما يُحدث صحوة في مجال الدراسات الإسلامية الأكاديمية المُهْتَمَّة بالرد على بعض الفرضيات الاستشراقية بشكل عام، والفرضيات الاستشراقية «اليهودية والإسرائيلية» بشكل خاص. ويأتي اصدار الكتاب في إطار المجهودات التي يبذلها المؤلف في مجال الاستشراق الإسرائيلي والدراسات اليهودية. فالمؤلف حاصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 2012 حول دراسته النقدية لأحدث ترجمة عبرية لمعاني القرآن الكريم صدرت في إسرائيل وتم تكريمه عليها من قبل الجامعة في 2013. كما يهدف إصدار مركز تفسير للدراسات القرآنية في المملكة العربية السعودية لهذا الكتاب، في اطار اعتماد المركز خطة علمية طموحة تحمل عنوان «الانتصار للقرآن الكريم»، وتهدف للرد علمياً وموضوعياً على الشبهات التي تلصقها بعض الكتابات الغربية بالقرآن الكريم، ويعتزم المركز ترجمة الكتاب إلى لغات أجنبية بهدف مخاطبة الغرب بمثل هذه المؤلفات. ويبقى أن تشكل مثل هذه الأبحاث والإصدارات جسراً لتقريب «الآخر» وفهمه والاطلاع على نتاجه، والابتعاد عن الظن والتعميم في إطلاق الأحكام والاتهامات من دون تمحيص، فلطالما كانت الأحكام المسبقة والمسيسة عائقاً في سبيل حصول مثل هذا التواصل المعرفي والتقوقع حول الذات بحجة الدفاع عنها، بدلاً من الانفتاح على «الآخر».