استخدم النظام السوري أنماطاً عدة من العنف المفرط، الأول، وهو ما تمارسه عصابات الشبيحة، التي تحجب النظام، وتقيه أية مسؤولية سياسية وقانونية وأخلاقية عن التنكيل البشع الموجه ضد المتظاهرين السلميين؛ وقد تفرّع عن هؤلاء، أخيراً، ما بات يعرف ب «لجان المقاومة الشعبية»! والثاني، وهو ما يقوم به رجال أجهزة الاستخبارات المتعددة، والذين يشكلون جيشاً بذاته، في الحالة السورية، وهؤلاء أيضاً يلبسون الثياب المدنية، ولا يمكن تحديدهم، ولديهم سلطة مطلقة على التحكم بمصائر الناس من الاعتقال إلى التعذيب وصولاً إلى القتل. والثالث، وقد أوكل به القناصة، الذين يعتلون أسطح البنايات، المشرفة على الشوارع والساحات الرئيسة في المناطق الساخنة، لممارسة القتل الإجرامي، بدم بارد، وهؤلاء مثل الأشباح، لا يعرف أحد وجوههم ولا هويتهم. والرابع، يقع على عاتق قوات الجيش النظامي، ولا سيما الفرق الخاصة والموثوقة، والذين يتم نقلهم إلى المناطق الساخنة، لإسكاتها بكل الوسائل، أي بالرصاص وقذائف المدفعية. والخامس، ويتألف من سلاحَي الطيران والمدفعية، ومهمته القتل الجماعي والتدمير الأعمى وإشاعة الخوف والرعب واليأس في البيئات الحاضنة للثورة. هكذا، عمل النظام منذ البداية في مواجهة المتظاهرين، لعدم تمكينهم من «احتلال» حيّز مكاني معين في المدن الرئيسة، وللحؤول دون توسيع رقعة التظاهرات، ولإفهام السوريين بأن الثمن سيكون باهظاً، من أرواحهم وممتلكاتهم، وأن ما جرى في مصر وتونس واليمن لا يمكن أن يمر في سورية؛ وعلى أساس أن الطريقة الليبية متعذرة بسبب احتمائه بالفيتو المزدوج الروسي والصيني. لم يكن ثمة حساب عند النظام لإطلاق الرصاص على المتظاهرين، بقصد قتلهم، أو إعاقتهم، أو إصابتهم بجروح، أو اعتقالهم، ولم يكن ثمة معايير قانونية أو أخلاقية تقيد ذلك، فكل شيء مباح، لأجل أن تبقى «سورية الأسد إلى الأبد». هكذا، بات اليوم ثمة أكثر من ثلاثين ألف لقوا مصرعهم نتيجة وحشية النظام، وثمة أضعافهم في المعتقلات، وأضعاف هؤلاء من الذين جرى التنكيل بهم، وتدمير ممتلكاتهم، بصورة وحشية، ندر أن حدث مثلها، باستثناء ما حصل بين قبائل التوتسي والهوتو في رواندا، وفي كبموديا زمن بول بوت، وفي حرب الصرب ضد مسلمي البوسنة. مثلاً، وخلال الأشهر الثمانية الأولى من الثورة، والتي كان يغلب عليها الطابع السلمي، لقي 600 - 700 من السوريين مصرعهم برصاص القوى الأمنية، والشبيحة، في الشهر الواحد، وهو عدد كبير جداً، ويزيد بثلاثة أضعاف عن عدد الفلسطينيين الذين لقوا مصرعهم في الانتفاضة الأولى (1987 - 1993) والتي استمرت ستة أعوام. وبالمقارنة مع الانتفاضة الثانية، التي غلب عليها طابع المقاومة المسلحة والعمليات التفجيرية، فقد لقي 5000 من الفلسطينيين مصرعهم في خمسة أعوام (2000 - 2005)، بمعدل ألف فلسطيني في العام؛ ناهيك عن أن إسرائيل لا تقتل من شعبها، وإنما تقتل من شعب آخر. وليس القصد من هذا الكلام التنظير، أو التبرير، للتحول الحاصل في فعاليات الثورة السورية نحو مواجهة النظام بوسائل العمل المسلح، وإنما ملاحظة أن هذا التحول إنما هو تحصيل حاصل، أو بمثابة رد فعل على سلوكيات النظام، وسده الطريق أمام أي حل سياسي، يضمن التغيير الديموقراطي في البلد. الآن، هل كان أمام السوريين خيار آخر؟ من التعسّف بمكان إعطاء الانطباع وكأن السوريين ذهبوا نحو استخدام السلاح عن سابق تصميم. فهم ما كانوا يتصوّرون إمكان تسيير تظاهرة ضد النظام، فما بالك بأكثر من ذلك؟ لذلك، فقد فوجئوا هم بذاتهم بهذه الثورة، أي فوجئوا بأنفسهم، وبإمكاناتهم، وباستعداداتهم للتضحية، وبتوقهم المختزن للحرية والكرامة. لكن، هل كان بالإمكان الاستمرار بالطابع السلمي للثورة؟ ربما، فهذا الشعب الذي أبدى كل هذه القدرة على الصمود وتحمّل كل هذه المعاناة بالتأكيد يستطيع الاستمرار في هذا الطريق. لكن ما الذي سيعنيه ذلك بالنسبة لمطالبهم وبالنسبة لمعنى ثورتهم، وبالنسبة للنظام الذي يريدون إسقاطه؟ واضح من التجربة أن هذا النظام الذي رفض، منذ البداية، الاعتراف بمشروعية المطالب الشعبية، والذي يصر على البقاء، تحت شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، مستعد للذهاب إلى النهاية بقتل المتظاهرين، والتنكيل بهم، وتدمير ممتكاتهم، لا سيما أنه يتمتع بتغطية دولية وإقليمية، تشكل شبكة أمان له، من أية تدخّلات. ومن الناحية العملية فمن غير الممكن توقع إقحام الجيش في قمع السوريين وإعمال القتل فيهم من دون توقع رد فعل مقابل، يتمثل بالانشقاقات العسكرية، وهو ما حصل، وبتشكل شبكات حماية أهلية، للدفاع الذاتي، كما في كثير من الأرياف الطرفية وبعض أحياء المدن. والحال هنا أننا نتحدث عن نظام لا يعرف سوى لغة العنف المفرط في مواجهة شعبه، وينكر شرعية أية مطالبات شعبية، بل إنه يعتبر ما يجري مجرد مؤامرة خارجية، وفوق ذلك فهذا نظام يرى في سورية مجرد مزرعة خاصة يتم توارثها في العائلة الحاكمة، وأن أي تغيير، أو إصلاح، فيها، ينبغي أن ينطلق من هذه القاعدة. في المحصلة، فإن النظام هو المسؤول عن سدّ كل الطرق أمام التغيير بالوسائل السلمية، هذا لم يكن يحدث في تجارب النضال السلمي، اللاعنفي، فالسود في الولاياتالمتحدة تمتعوا بغطاء قانوني، يقنن العنف ضدهم، وكذا فإن القوات البريطانية في الهند لم تكن مطلقة اليد في أعمال القتل في الهنود الذين يتظاهرون، بزعامة غاندي، مطالبين بالاستقلال. فوق ذلك ففي الهند تشكلت قوى في المجتمع البريطاني تؤيد استقلال «درة التاج»، مثلما وقفت نخب أميركية، وجزء من المجتمع الأميركي، وراء مطلب الزنوج إزاء حقهم بالتحرر والمساواة (وهو ما حصل أيضاً في النضال ضد التمييز العنصري في جنوبي أفريقيا/ سابقاً). مع ذلك فما ينبغي إدراكه هنا أن التغيير من طريق العمل المسلح هو خيار باهظ الثمن، ويأتي كممر إجباري، بعد أن تسد الطرق وتقتل كل أشكال التعبير السلمية. ومن المفهوم أن اختيار هذا الطريق ينتج عنه، أيضاً، كثير من التداعيات السلبية، والخطيرة، فهو يزيد كلفة الثورة، ومن ارتهانها للقوى الخارجية (مصدر التمويل والتسليح والإمداد)، ويؤدي إلى حصرها بفعاليات الجماعات العسكرية، في حين أن العملية الثورية تتطلب مشاركة أوسع قطاعات من الشعب فيها. فوق ذلك فإن هذا الطريق يفضي إلى عسكرة الثورة، وسيادة لغة العنف في التعاملات البينية بين أطرافها، كما بينها وبين مجتمعها؛ ولا يخلو ذلك كله بالطبع من سلوكيات سلبية ربما تشوه الثورة، وتضر بنبل مقاصدها. لا توجد ثورات نظيفة، أو كاملة، لكن الثورات التي تتخذ طابعاً مسلحاً، تتطلب بالذات نوعاً من اليقظة، والنقد، وآليات العمل، التي تضمن تحقيق التناسب والتكامل بين مكوناتها، وتعزيز طابعها المديني - الجماهيري، وخضوعها لخطة سياسية محددة، تكفل لها تجنّب الاستدراج للأعمال الثأرية، والنأي بالأعمال القتالية عن مناطق المدنيين ما أمكن ذلك، وعدم تحويل العمل العسكري إلى نوع من فوضى أو إلى غاية في ذاتها. * كاتب فلسطيني