يتميز فيلم «بعيداً عن الرجال»، بخصائص عدة إلى جانب لغته السينمائية الطاغية. إنه أحد الأفلام التي تستحضر الوجود العربي في مهرجان فينيسيا الحادي والسبعين – الذي يختتم فعالياته غداً السبت – فأحد بطليه الرئيسيين عربي إذ إن أحداث الفيلم تدور على خلفية فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر وحرب التحرير. كما أنه أحد الأفلام التي نجحت في تصوير الصحراء بأسلوب جمالي أكثر مما فعل العرب أنفسهم - ربما باستثناء التونسي ناصر خمير –. وهذا الفيلم قد يبدو متفوقاً في مجال تصوير الصحراء على فيلم «القطع» للمخرج الألماني من أصل تركي فاتح أكين والذي يدور جزء كبير منه هو الآخر في الصحراء - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -. وإضافة إلى هذا فإن «بعيداً عن الرجال» الذي يحمل توقيع المخرج الفرنسي دافيد أولهوفن – وينافس على جائزة الأسد الذهبي - يعتبر من بين قلة من الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية وتشارك في المهرجان الإيطالي العريق هذا العام ويبدو فيه السرد السينمائي متفوقاً على النص الأدبي. في أعماق الأطلس يتمحور الفيلم من حول دارو وهو مدرس أسباني يعرف العربية قليلاً، اختار أن يعيش في إحدى القرى النائية في عمق جبال الأطلس حيث يساعد الأهالي ويقوم بتعليم القراءة باللغة الفرنسية للأطفال الجزائريين. لكن عالمه يتملكه الاضطراب الكامل عندما يتقاطع مصيره مع مصير محمد القروي الذي ارتكب جريمة قتل، إذ تم تسليمه إلى دارو لكي يقوم هو الآخر بتسليمه إلى البوليس الفرنسي لمحاكمته. كان الأسباني رافضاً فكرة المحاكمة، وفي نفس الوقت كان يشعر بالتقزز والاشمئزاز من محمد لأنه قتل ابن عمه. لكن الأمور تتبدل عندما بدأ العربي يحكي قصته مع الثأر بسبب الغلال، وأنه يخطط للهرب بعيداً حتى لا يقتله أبناء عمومته ومن ثم يصبح أخوه الأصغر مطالباً بالثأر له. هنا، ومنذ تلك اللحظة، يحدث تماس إنساني بين الرجلين، وذلك على رغم أنهما متناقضان في الشخصية والطباع وينتميان إلى ثقافتين مختلفتين، وإلى نوعين متباينين من القوانين، قانون العرب وبدو الصحراء وقانون الفرنسي المحتل، لكن يجمع بينهما الرغبة في الحرية، وإن كان لكل منهما طريقته في تحقيقها. لذلك يقرر دارو أن يساعد محمد على الهرب... لكن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، إذ تنحو الأمور إلى مزيد من التعقيد. فأبناء عمومة محمد يطاردون الرجلين في الصحراء، ويضطر دارو لإطلاق النار وارتكاب جريمة قتل، ثم يقعان معاً في أيدي الثوار الجزائريين، وأثناء ذلك يعلم الفرنسيون بوقوع المدرس الأسباني في الأسر فيهاجمون الثوار ويقتلونهم من دون رحمة، حتى من استسلم منهم قتلوه، ما جعل دارو يصف ما حدث بأنه «جريمة حرب». وهو المشهد الذي أثار غضب عدد من الصحافيين الفرنسيين – في المؤتمر الصحافي الذي أعقب عرض الفيلم - واعتبروه يتحامل على الجيش الفرنسي وأنه قد يتسبب في إعادة فتح جراح قديمة. لكن أولهوفن دافع عن فيلمه قائلاً: «إنه مأزق تاريخي، لقد قتل الجيش الفرنسي 50 جزائرياً في تلك المنطقة عام 54، إنها حقيقة تاريخية، ويجب أن نعرض الأشياء كما وقعت». ويسترن غير تقليدي قد يبدو لبعضهم من خلال سرد القصة أننا أمام فيلم ويسترن، والأمر صحيح إلى حد ما، لكنه ويسترن غير تقليدي، فالفيلم إلى جانب إيقاعه المتوازن وزمنه النفسي المعبر عن وجدان ودواخل الشخصيات ووعيها ومشاعرها المتبدلة، يبدو أيضاً مليئاً بالتفاصيل الإنسانية في العلاقة التي تقوم بين المدرس والعربي القروي خصوصاً عندما يصاب الأخير بالحمى فيحاول دارو علاجه، أو حتى خلال رحلتهما عبر دروب الصحراء بعواصفها الرملية المهلكة وأمطارها الغزيرة المفاجئة عندما اضطرا للهروب سوياً عبر جبال الأطلس في منتصف الشتاء الجليدي. أو كما في تلك العلاقة القوية المرهفة التي تخلقت بين المدرس وبتلاميذه الصغار والتي نستشعرها من نظرته إليهم كأنهم أطفاله وكل ما يملك في هذا العالم المنغمس في القتل، بينما نلمح الحزن وقد كسا وجوه وأرواح الأطفال عندما يعلمون أنه اليوم الأخير لهم في فصل دارو. الفيلم يزخر أيضاً بالتيارات التحتية والمشاعر المدفونة التي تخفي حكاية دارو وقصة الفقد المؤلم لزوجته، وهو الأداء الذي تفوق فيه فيغو مورتنسن بدوره شديد الخصوصية والذي يستحق عنه جائزة أحسن ممثل في ظل منافسة شرسة. والمقارنة بن النص الأدبي «الضيف» – قصة قصيرة للكاتب الجزائر الفرنسي ألبير كامو التي تدور أحداثها عام 1954 وقد صدرت عام 1957 ضمن مجموعة «المنفى والمملكة» - وبين نظيره السينمائي «بعيداً عن الرجال» تكشف عن «خيانة رائعة» قام بها أولهوفن، ليس فقط بدءاً من العنوان الذي يحتمل تأويلات عدة ملتبسة عند محللي نصوص كامو فكلمة «L'hote» تترجم أحياناً بمعنى «الضيف» لكنها أيضاً تحتمل معنى «المضيف»، و»العدو». كذلك اختلفت الشخصية العربية كما رسمها المخرج إذ منحها اسم «محمد» بعد أن كانت صامتة حيوانية مجهولة الاسم – أو نكرة - عند كامو، فجعلها المخرج موسومة بالرحمة تتحدث وتطرح أفكارها – حتى ولو بتلعثم - وتخطط للهرب إلى طنجة للإفلات من دوامة هذا الثأر وإنقاذ الأخ الأصغر. لكن يبقى الأهم في هذه المعالجة السينمائية هو قدرة أولهوفن في التحرر من قصة كامو واتخاذ موقف مغاير وأكثر عدلاً عند تصوير الشخصية العربية وقدرتها على اتخاذ قرار، وكذلك برؤيته المغايرة للمحتل، ونجاحه في تجسيد عمل مفعم بالمشاعر على رغم أن الأحداث قليلة وذلك لأنه قبض على روح القصة التي يريدها هو، على رغم أنه وصف قصة كامو بأنها «مقتضبة جداً لكنها تتمتع بجمالية ساحرة. إنها تتحدث عن الالتزام السياسي، وعن صعوبة الرؤية بوضوح في عالم مضطرب حيث العنف يجرف الجميع».