ما إن حصل الممثل الجزائري حسان كشاش على جائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم التاريخي «مصطفى بن بولعيد» حتى تنفس المخرج أحمد راشدي الصعداء، فمن الواضح أن الرجل عانى ما عاناه حتى يصل فيلمه إلى مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثالثة من المهرجان الدولي للفيلم العربي في وهران (23 – 30 تموز/ يوليو 2009)، ذلك أنه ما إن دار الحديث عن مشاركة «دكان شحاتة» للمصري خالد يوسف حتى تدخلت وزارة المجاهدين الجزائرية بهدف منع «بن بولعيد» من المشاركة جنباً إلى جنب هيفاء وهبي، معتبرة أن هذه المشاركة تشكل اساءة كبيرة لأسد الأوراس، أحد اكبر رجالات الثورة الجزائرية في تاريخها.راشدي الذي ظل حتى اللحظات الأخيرة يأمل بجائزة يمكنها أن تعينه على مواجهة الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها فيلمه من أوساط جزائرية مختلفة، سيحسب له بالتأكيد خروجه عن هذه النوعية من الأفلام التي تتناول الثورة بصفتها فعلاً جماعياً، إلى تناول دور الفرد فيها، كما حدث مع الكثير من الأفلام التي حاكت نضالات الجزائريين إبان فترة الاستعمار الفرنسي مثل «وقائع سنوات» و «الأفيون والعص». هنا يظهر البطل بن بولعيد في بعض المشاهد متردداً وغير قادر على الحسم، ولا نعرف ما إذا كان راشدي قد تعمد ذلك، أم أن امكانات الممثل كشاش لم تكن كلها موظفة في المكان الصحيح. ومع ذلك، فإن راشدي بذل جهوداً كبيرة في إخراج فيلمه التاريخي الضخم، وقد تأمنت له امدادات لوجستية حربية وطائرات ومتفجرات بكميات كبيرة، وتجلت حرفيته العالية في المشاهد التي تناولت المعارك الأولى، وفي تصويره لمنع تظاهرات سي مصالي الحاج على جسر قسنطينة الشاهق في واحد من أجمل المشاهد من الفيلم، إذ بدا راشدي متمكناً من مجاميعه ومسيطراً عليها حتى مع استخدامه طائرات لتصويرها، وكأنها قطعة فنية خاصة لذاتها. رأي الرئيس الانتقادات التي وجهت إلى راشدي تعدت على ما يبدو الجانب التاريخي في روايته حول مقتل بن بولعيد، إلى ما هو أبعد من ذلك، الى درجة أن المخرج لم يعد بوسعه تفسير الموقف المسبق لبعض الأوساط الجزائرية من فيلمه. وهي انتقادات وصفها على أي حال بأنها «غير سينمائية» في سبيل إحراق جهود طويلة مضنية لفيلم كلف 30 مليار سنتيم، وزعت على الشكل الآتي: وزارة المجاهدين 7 مليارات سنتيم، الرئيس الجزائري 15 مليار سنتيم، لافداك 1 مليار سنتيم، سونلغاز 1 مليار سنتيم. وهناك بالطبع بعض الجهات الخاصة التي شاركت بالخمسة المتبقية، إضافة إلى وزارة الثقافة. هذه الموازنة الضخمة لم تغفر للفيلم، خصوصاً أن منتجه لجأ بعد سنوات من البحث عن ممولين لوزير المجاهدين محمد الشريف عباس الذي قرر البدء بإطلاق المشروع على عاتقه قبل أن يتوقف لأسباب تمويلية، ويعاد إطلاقه ثانية بتدخل من الرئيس الجزائري. راشدي يقول إن الرئيس بو تفليقة أكد له في وقت لاحق بعد مشاهدته «مصطفى بن بولعيد» ان الفيلم «صحيح سياسياً»، ومع ذلك، فإن المخرج الجزائري يتذكر بنوع من الأسى ان بعض الجهات الثقافية الجزائرية وقفت ضده شخصياً في احتفالات الثقافة الافريقية التي احتضنتها الجزائر أخيراً بعد انقطاع دام أربعين سنة عنها، وهو ما أشار إليه بقوله إن الجهة التي منعت «فجر المعذبين»، هي ذاتها التي منعت «بن بولعيد» وكأنها تقف ضده شخصياً، وحاولت أن تكرر الأمر ذاته في مهرجان وهران بتأليب وزارة المجاهدين على الفيلم من خلال تحريك قصة هيفاء وهبي، وهنا لم يمنع راشدي نفسه من الاشادة بفيلم «تلميذ يوسف شاهين، وأنه لو تقررت مشاركة مادونا في مهرجان في نيودلهي، فسأشارك أيضاً بفيلمي، لأن هذا شأن سينمائي صرف». بالطبع لم يفت راشدي أن «أسد الأوراس» لم يكن مبرمجاً مع الأيام الأولى للمهرجان، وهو كان يصر على القول ان المشكلة تتلخص بالتيترات، مؤكداً أن نهاية الفيلم بالصورة التي انتهى عليها لا تعد توثيقاً أكاديمياً لحياة البطل الجزائري، إذ اختلف الكثير من المصادر حول الطريقة التي قتل بها (كانون الثاني/ يناير 1956)، خصوصاً أن ثمة اعتراضاً أكيداً سجل من جانب ابنته، وشككت فيه برواية راشدي معتبرة أن نهاية والدها لم تجئ عبر إلقاء الفرنسيين جهاز ارسال مفخخاً في منطقة قريبة من أماكن وجود بن بولعيد، وهو الجهاز الذي انفجر به مع مجموعة من رفاقه، ما أدى إلى مصرعه مع ثمانية منهم. 90 كلم أفلاماً! أياً تكن الطريقة التي اغتيل بها بن بولعيد بعد عودته بقليل من سجن «الكودية»، فإن راشدي بدا مسترسلاً في إطالة قسرية، كان يمكن التخفيف منها (بحسب المنتج تم تصوير 90 كيلومتراً من الأفلام الخام) لحساب الايقاع العام لفيلم بدا دينامياً ومؤثراً، ولكنه وقع في تفاصيل الاجتماعات السياسية التي كانت تمهد للثورة، ولمواقف سياسية صدرت عن رجالات الثورة الجزائرية مثل بوضياف، بيطاط، العربي المهيدي وآخرين، أدخلت الفيلم في متاهة الاستعراض التاريخي بالاستناد إلى الكثير من الوثائق ومحاضر الاجتماعات وشهادات المناضلين الجزائريين، خصوصاً الباقين منهم على قيد الحياة. وهذا أعطى الفيلم منحى الدرس التاريخي الذي كان يمكن راشدي أن يتفاداه، وهو يخرج به إلى مسيرة البطل الفرد للمرة الأولى في السينما الجزائرية، هو البطل الذي لم نتعرف الى عمق شخصيته الانسانية إلا بعد وقوعه في الأسر التونسي بعد محاولته الخروج من الجزائر بحثاً عن مصادر دعم وتمويل للثورة. ربما تجيء مشاهد السجن لتكون الأكثر طولاً في الفيلم، وهي التي أوقعته في مطب التطويل، على رغم أن راشدي أشار أكثر من مرة إلى أنه حذف منه أكثر من عشرين دقيقة بعد عرضه في مهرجان دبي السينمائي الدولي الماضي. وفي موازاة ذلك، بدا بن بولعيد في مشاهد السجن بعيداً من عوالمه الداخلية التي يتطلبها المكان والحدث، وطبيعة شخصيته، فباستثناء التخطيط الدؤوب لمحاولة الهرب، ومحاولة إفساح المجال لرفاقه ال 24 الذين وقعت عليهم القرعة للهرب، ليست ثمة ملامسات داخلية في العمق لهذه الشخصية. مشكلة «بن بولعيد» بهذا المعنى على ما يبدو لا تكمن في اضافات راشدي على شخصيته القيادية الواضحة، فهو كما يقول لا يوثق حرفياً للتاريخ، وانما يقدم فيلماً للفرجة، وإن كان قد بحث عن الرواية الأكثر قرباً من مصرعه (كتب السيناريو الصادق بخوش)، ومع هذا، فإن إبقاء راشدي على الوقائع التاريخية الأخرى كما وردت في الكثير من الكتب والشهادات الحية أغرق الفيلم في حالة جفاء غير محددة المعالم مع الجمهور الجزائري بالدرجة الأولى، إذ كان ينتظر فيلماً عن بطله المحبوب بفارغ الصبر، وهذا ما يفسر حمله الممثل كشاش على الأكتاف بعد العرض الأول مباشرة. «بن بولعيد» الذي بدا مؤثراً وقوياً في كادراته الأولى تراجع إلى تطويل غير مبرر أرهق بطل الأوراس، وكان يمكن إبعاده من الكثير من المتاعب من خلال الطريقة التي كان يمكن أن يحقق فيها، فالفيلم كان مكلفاً، وحمل راشدي مسؤولية المرور به عبر الكثير من الألغام التي صنع بعضها بيديه، وصولاً إلى جائزة أفضل ممثل ووعود بعرضه مجاناً على كامل الأرض الجزائرية.