يستيقظ طائر مينيرفا، آلهة الحكمة والحرب والذكاء والاستراتيجيا في الأساطير الرومانية، عند منتصف الليل، وفق الفيلسوف هيغيل. ويوم ابتكرت شخصية جيمس بوند اشتمل الغسق على القوة البريطانية، أي بلغت من الأفول مبلغاً لا يستهان به، وكانت السينما البريطانية تذوي أمام بروز سينما هوليوود. وملأت مآثر بوند الوثيقة الصلة بعالم الأحلام، فراغ حنين المسنين إلى إنكلترا تشرشل، واستمالت الجيل الشاب الإنكليزي الذي كان يبتعد عن الأصول المتعارف عليها في جيل القادة على وقع أغاني فرقة ال «بيتلز». ويتحدر جيمس بوند الأول، الذي يواجه الدكتور نو الغامض، من مرحلة ختام ولاية كينيدي الرئاسية وبداية حرب فيتنام: إدراك الغرب أن «الخطر الأصفر» داهم وأنه أخطر من الروس، في وقت بدا أن سلاح الممثلة أورسولا أندريس الشامل أفلح في إبطال عمل أسلحة العدو الدفاعية. وبعد نجاحه العالمي، أخذ المخرج تيرينس يونغ الجماهير في فيلمه الثاني «فروم راشا وذ لاف» (مع حبي من روسيا) إلى عالم الحرب الباردة السوفياتي. وقسوة العالم هذا لم تبدد الإشارات الهزلية والرومنطيقية التي تجد موطئها في إسطنبول القديمة التي غنّى لها مانكيفيز في «قضية سيسرون». وإثر بلوغه مرتبة الأيقونة العالمية، بدأ جيمس بوند يزور أنحاء العالم، كما لو أنه بطل من أبطال جول فرن قبل قرن من الزمن. وشيئاً فشيئاً، ارتقت الولاياتالمتحدة مسرحاً لإنجازات بوند، ورجحت كفتها. والفيلم الأبرز الذي كرّس مكانة أميركا هذه هو «غولدفينغر» (الأصبع الذهبية)، وهو أكثر أفلام سلسلة جيمس بوند نجاحاً. فبوند نجح في إنقاذ الولاياتالمتحدة من كارثة وشيكة: الانفجار النووي الذي لو أصابها لكانت امتدت إشعاعاته إلى مخزونها من الذهب كله. وهو سبق مبادرة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى فك الربط بين احتياط الذهب وسعر العملة في 1971. وبعد سلسلة من الأفلام، يبدأ شين كونري بالانسحاب من الدور، وتحل محله سلسلة من الممثلين لا تنجح في الفوز بقلوب المشاهدين. فشين كونري كان يجمع موهبة التمثيل الكبيرة وميزة أداء دور ضابط في البحرية الملكية البريطانية نافذ على خلاف قوة البحرية الآفلة. وهو كان علامة دحض كل معايير الطبقة البريطانية الحاكمة. ومع نهاية الحرب الباردة، نحت سيناريوات أفلام بوند إلى عالم الخيال الضعيف الصلة بالواقع، مثل الأخطار المتناثرة التي كانت تحيط بنا، اثر انهيار كتلة المعسكر «السوفياتي» المتراصة. واستوحت الشركة المنتجة لبوند نموذج عميل الاستخبارات البوندي على الطريقة البوتينية (نسبة إلى فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي الحالي، خريج جهاز «كي جي بي» السوفياتي) في روسيا بوريس يلتسن، وأدى دوره دانييل غريغ. وظهر بوند على أنه «أزعر» لندني يغتال منافسيه في المراحيض. كأن روح التمتع بإيذاء الآخرين غلبت على بوند البوتيني. * محلل ومعلّق، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 5/10/2012، إعداد منال نحاس.