يحاول الأميركيّ دون ديليلو أن يقدّم في روايته «فنّانة الجسد»، (ترجمة محمّد عيد إبراهيم، إشراقات، بيروت) رؤية ما بعد حداثيّة للحياة، حيث فنّانة تتحدّى بعملها الجسديّ وسياحاتها النفسيّة حدود الجسم الفيزيقيّة. فنانة تواجه تحدّياً مُقلقاً، تشعر بالغربة المتعاظمة في داخلها، ترتحل في الزمن والحبّ وكلّ مدركات الإنسانيّة، ثمّ تكتفي بعالمها الصغير المحدود، تستمتع باستعادتها الأحداث وتتألّم في الوقت نفسه لتلك الاستعادة، تعبّر حالتها عن عبثيّة غير مجدية. بطلة الرواية لورين هارتكي تسترجع بعض المحطّات من حياتها مع زوجها الممثّل السينمائيّ الذي يُقدم على الانتحار، ويتركها نهباً للذكريات الأليمة. تسرد لورين لحظات رجوعها من جنازة زوجها بأسى، تحاول التخفيف عن نفسها، تغيّر مكان إقامتها، تستأجر بيتاً تكتشف فيه حياة غريبة في حجرة فارغة، تنتابها حالة نفسيّة غريبة، تتوهّم أنّها تشاهد رجلاً لا يملك الإفصاح عن نفسه، يكون حضوره المتخيّل قاسياً عليها، يتجسّد رويداً رويداً بشكل وصوت زوجها المنتحر، يبدأ ذاك الكيان الملغز التكلّم بصوت راي وصوتها، يستعيد جوانب من حواراتهما قبل انتحار راي، تحار لورين في المسألة، تتساءل إن كان ذاك الرجل يسترق السمع ثمّ يعيد إنتاج العبارات التي سمعها من قبل. تتوالى الألغاز لتزيد من حيرة لورين التي تعيش تماهياً بين الماضي والحاضر، بين الحياة والموت، يكون الموت الحدثَ الأبرز تأثيراً في حياتها، يجبرها على إعادة ترتيب أولويّاتها، والتعرّف من جديد إلى العالم المحيط بها. تقدّم الراوية سيرة مختصرة لها ولزوجها راي مقتفية آثار الزمن عليهما. تقدّم راي روبلز على أنّه فنّان سينمائيّ انتحر وهو في منتصف العقد السابع من عمره، ولد في برشلونة، كان والده مقاتلاً في القوّات المناهضة للفاشيّة، قتل أثناء الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وكان راي قد أرسل إلى الاتّحاد السوفياتيّ حين أصبحت دكتاتوريّة اليمين حقيقة معوّقة، لينضمّ إلى أطفال الحرب، عاش شبابه في باريس مشرّداً، لعب أدواراً قليلة في عدد من الأفلام التي صُنّف فيها كشخصيّة هامشيّة، تنقّل بين عدّة مهن، تمكّن بعد محاولات كثيرة من ولوج عالم الإخراج السينمائيّ، تزوّج ثلاث مرّات كانت لورين هارتكي زوجته الثالثة. أمّا لورين فكانت في منتصف العقد الرابع، كانت ابنة معلّم تقليديّ يمضي تقاعده كمتطوّع ميدانيّ على أحافير أثريّة في بحر إيجة، وكانت أمّها عازفة بفرقة موسيقيّة، تؤدّي لورين هارتكي على المسرح فاصل العرض الذي يُدعى زمن الجسد، تودّ في ذلك الفاصل أن يشعر جمهورها بالزمن عميقاً مؤلماً، لا تقبل بالأقاويل، التي تصفها بأنّها مجرّد فنّانة جسد تسعى إلى رجّ الجسد، لأنّها تعمل دوماً أن تصبح أخرى أو تستكشف جذر هويّة ما. تُطلق لورين بعض الافتراضات عن كائنها الشبحيّ الذي يعيش معها في عتمة المنزل الصيفيّ، تتوهّم بأنّه ربّما ضيف حلّ عليها أوّ أنّه ربّما صيغ ذات تواصل مختلف تسعى للتعويض عن الغياب المفاجئ المؤلم لزوجها، أو لربّما هو مخترع من حزنها وعزلتها وأوهامها. تخمّن أنّ ذاك الشبح هو مجرّد فضول أحمق يرغب بالعيش في أصوات الآخرين والتجلّي والتجسّد عبرهم، تناجيه، تخترع له أسماء وصفاتٍ، تعيد رسم اللحظة الشبحيّة حيث الزمن هو السردّ الوحيد المهمّ، فهو يمطّ الأحداث ليجعلها ممكنة، تعاني منه وترى الموت يحدث ليشكّل ثقافة مختلفة، تصفه بشيء ضبابيّ مراوغ لا تعرف عنه شيئاً، شيء ينتهك حدود الإنسانيّ ويعيد ابتكار الكينونة. يجتاح سمع لورين صدى تأوّهات تبدو كأنّها نعيب الحياة، تبدو في إجهادها متأنّقة رشيقة تردّد صدى كلمات راي بالضبط، تتأوّه آهته لكن بعمق غير ملائم بات مصدر إزعاجها أيضاً. تحاول أن تلهي نفسها بقراءة عناوين الصحف، تُقحم نفسها في قصص معيّنة بالصحيفة كنوع من تبديل أحلام اليقظة، تفعل ذلك بوعي وتكرّر الفعل نفسه مع قصّة مختلفة راغبة بتخطّي استيحاشها ووحدتها. تفصّل الأقسام والسطور، تعيش مع الكلمات والورق والحبر، تنظر إلى الصفحات، تميّز الاختلافات والتفاصيل، تتحدّث مع ما يرد فيها، تعيش في عالمها المتخيّل ثمّ تدرك خطورة ما تفعله، فتتوقّف في استراحة لتعاود العملية لاحقاً. تصبح أحياناً شخصاً آخر، تؤدّي حواراً من اختراعها، تغدو إنساناً يعيش بين السطور وفي عوالم الأحلام والأوهام، تشعر أنّها خارج التقويم حيث الزمن بلا هويّة، تترقّب أيّ شيء يحرّك ركود الزمن الباهت الذي تحياه، زمنها الداخليّ الذي يسير ببطء مفجع يعكس انسداد الأفق لديها، يحاصرها ويغلق جسور الأمل لديها، تستوقفها أيّة نأمة، ترى بالمصادفة طائراً صغيراً يحطّ بالقرب منها، تتأمّل تراسيمه وريشه، ترى فيه لصّ الأعشاش والمحاكي الماهر، كما ترى في عينيه رعشات فضوليّة تحسّ بها قليلاً كالتحدّي. تقول لورين إنّ الجسد لم يكن أبداً عدوّها، بل تحسّ بالذكاء في التعامل مع جسدها، تدرّبه على فعل ما لا تستطيع أجساد أخرى على القيام به. تفكّر في الزمن بشكل مختلف، توقفه أو تبسّطه أو تكشفه، تصنع حياة ساكنة بحركتها الدائبة، تعرض في فاصلها فنونها المبهمة التي قد تبدو صعبة بطيئة ومعذّبة أحياناً. ومع استعادة لورين لحركاتها وسكناتها تستعيد تفاصيل الكائن الشبحيّ معها، حيث تتراكم كلماته في مونولوج دون سياق محدّد، أفعال وضمائر مبعثرة في الهواء، ثمّ يحدث شيء مجفل، يقفز الجسد إلى مستوى آخر بسلسلة حركات متشنّجة كهربيّة، يندرس من غير تحكّم، يُساط ويُلفّ بصورة مروّعة، تدفع هارتكي جسدها إلى أداء حركات رأتها فقط في أفلام الرسوم المتحرّكة. كما تستعيد أثناء ذلك الحكايات التي قصّتها على نفسها والتي تبدو معمّمة طائشة، فيبدو الحكي كأنّه خارج من مصدر أعمق يباغتها. تتساءل من أين تنبثق الحكايات في عالم يفرّ بسهولة نحو حبّ وضغينة، عالم موثوق فيه وقابل للنسيان بوصفاته وحروبه وأخطائه الطبوغرافيّة والنفسيّة. وفي النهاية، وبعد سلسلة من الاستعادات، تمضي لورين إلى الحجرة، وتذهب للنافذة تفتحها بعنف، تودّ لو تحسّ بسيلان البحر على وجهها ودفق الزمن في جسدها ليدلّها على مَن تكون ويعرّفها إلى نفسها من جديد. هارتكي التي كانت تقمع رغباتها الجنونيّة وتسدّ المداخل إلى الذات، تحجبها عن الرؤية البشريّة، تلغي صورتها وفواصلها لتكون إرادة العقل فوق طاقة الجسد وفنونه، وتظلّ فنّانة الجسد منطلقة في فاصل عرضها المحجوب إلى ما لا نهاية، وتوقن أنّ المرء يعرف هويّته أكثر في يومٍ صافٍ بعد عاصفة، حيث تطعن أصغر ورقة متهاوية بوعي الذات، الوعي الذي يشكّل مركز التوازن لعالم المرء ومُنطلق مستقبله. مع أنّ الرواية لا تنهض على حبكة بعينها إلّا أنّها تدفع القارئ إلى التفكير في طبيعة الهويّة والوجود ومدى قدرة المرء على الاستمرار في الحياة في ظلّ فقدان أشخاص أعزّاء عليه، حيث يكون الاعتياد في كلّ الأحوال خطراً محدقاً بهم في متاهة الوحشة وعتمة الحزن.