حين توجّه إلى المدرسة المختارة من بين عشرات المدارس الخاصة ليلحق بها صغيرته البالغة من العمر أربع سنين، باغتته المديرة بسؤاله: «وهل تفضل أن تلتحق لارا بالقسم المختلط أم المخصص للفتيات فقط»؟ لم يتوقّع السؤال، ولم يعمل حساب الاختيار، إذ اعتقد أن المدارس الفاصلة للجنسين باتت حكراً على المدارس الحكومية، ومقتصرة على غيرها من مدارس الراهبات المعروفة منذ عشرات السنين بأنها للبنات فقط. طلب الأب مهلة للتفكير وفرصة للتشاور مع الأم ومجالاً لسؤال خبراء واختصاصيين. فالعائلة مختلطة، والعمارة مختلطة، والنادي مختلط، والباص مختلط، والجامعة مختلطة، والعمل مختلط. فلماذا يفصل ابنته عن الحياة الطبيعية التي تحياها خارج أسوار المدرسة؟ لكنه تمهل وتريث. فالمؤكد إن من فكّر في فصل البنات له وجهة نظر. وجهة نظر الفصل في مدارس مصر الخاصة لها أوجه عدة وأغراض شتى. فمن تسويق تجاري يرضي أصحاب الميول الدينية المتشددة التي أخذت تبزغ في مصر منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى تفضيل بعضهم حصول البنات على تعليم منفصل بعيداً من عنف الأولاد في اللعب في الصغر، وقصص حب المراهقين ومغامراتهم العاطفية في الكبر، إلى دراسات أكاديمية وأبحاث ميدانية تؤكد أن تعليم البنات المنفصل يمنحهن فرصاً أفضل ويحقق نتائج أحسن ويؤهلهن لحياة يؤدين فيها أدواراً متعددة ومتداخلة في شكل أمثل. ومثلما اندهش الأب لخيار التعليم المنفصل ظناً منه أن المدارس الخاصة والدولية لا تنتهج هذا النهج المحافظ، اندهشت الجدة لاندهاش الأب. فالتعليم المختلط، بحسب رأيها، ساعد على انفلات المجتمع، وأدّى إلى انهيار الأخلاق، وأزال الحدود الطبيعية والاجتماعية بين الجنسين. ولم تعرّج وجهة نظر الجدة إلى أسباب دينية أو فتاوى فقهية، لكنها ارتكزت على قيم عصر «بونجور يا هانم» و»دع السيدة تمرّ أولاً» و»النساء أولاً» وأخلاقياته. وهي في إطار ميلها لفكرة إلحاق الصغيرة لارا بقسم البنات، رأت في اختلاط الجنسين الزائد ورفع الكلفة الدائم وتداخل الأصدقاء والصديقات في مرحلة المراهقة، ما أدى إلى فتيات لا يجدن غضاضة في انتهاج لغة السب والشتم على سبيل الدعابة، ومنافستهن للأولاد في الصوت العالي واللعب العنيف وقساوة المشاعر على سبيل المساواة. المساواة، أو بالأحرى عدم المساواة، بين الأولاد والبنات في صفوف الدراسة من العوامل التي تجعل الأهل يفكرون ملياً قبل إلحاق بناتهم بالتعليم المختلط. تقول أماني مراد مديرة قسم الفتيات في مدرسة خاصة، إن خبرتها في إدارة القسم تؤكد أن أبرز مميزات التعليم المنفصل للفتيات هو قضاؤه على التنميط. وتوضح: «في القسم المختلط تجد الأولاد والبنات والمعلمين أنفسهم يضعون الجنسين في أنماط تقليدية تحدّ من قدرة البنات على الإبداع والتفكير والحديث، وتحبس الأولاد في نمطهم التقليدي حيث القيود المفروضة على تربية الذكور وتصرفاتهم من حيث عدم البوح بالمشاعر، والتمسّك بقواعد القوة والجمود، واعتبار الفتيات كائنات أدنى في القدرة». وتضيف: «صحيح إن مستوى تحصيل الفتيات في القسم المختلط يتفوّق على أقرانهن من الأولاد، إلا أن جانباً من ذلك يعود إلى رغبتهن في تعويض شعورهن بأنهن أقل ببذل قدر أكبر من المجهود والتفوّق والتحصيل الدراسي الأعلى». دراسة بريطانية أجرتها «مؤسسة تعليم الفتيات» عنوانها «لماذا مدرسة بنات؟» تشير إلى أن البنات في مدارسهن يظهرن ميلاً وقدرة على القيادة أفضل وأعلى بكثير من قريناتهن في المدارس المختلطة، وهي قدرة يحافظن عليها طوال حياتهن. فقيادة الفصل الطلابية، وقيادة فريق الخطابة، ونشاط الرياضة، ومجموعة الصحافة وغيرها تؤول إلى الفتيات اللاتي لا يجدن غضاضة أو يشعرن بحرج أو قيود في ترشيح أنفسهن في انتخابات طلابية، أو إظهار قدراتهن الخاصة التي كثيراً ما يكبتنها حرجاً من وجود الأولاد. كما يحدّ وجود الأولاد من مشاركة البنات في الأنشطة الرياضية، لا سيما وهن على أعتاب المراهقة، إذ يشعرن بالحرج ويفضلن عدم الجري أو القفز أو الوقوع أمام الأولاد. إلا أن وجود الأولاد في حياة البنات المدرسية منذ نعومة أظافر الجنسين عامل بالغ الأهمية في تقبّل كل منهما للآخر في مراحل الحياة المختلفة، وهو ما لا يتوافر في التعليم المنفصل. والدة لارا تقول إنها عانت الأمرين حين التحقت بالجامعة حيث التعليم المختلط. قبلها أمضت 14 عاماً في مدرسة للبنات فقط لا تصادق أو تتعامل إلا مع بنات جنسها. وتزيد: «ظل عالمي عالم بنات فقط، إلى أن التحقت بالجامعة حيث عانيت كثيراً قبل أن أندمج في الأجواء المختلطة، وأنجح في التغلّب على حاجز الخوف من التعامل مع الجنس الآخر. لذا أفضّل أن تنمو لارا وتتعلّم في أجواء طبيعية حيث أولاد وبنات يتعلمون ويتصادقون ويلتحقون بالجامعة ويعملون من دون فواصل إلا تلك التي تتعلق بالعادات والتقاليد، والأخلاق وغيرها من الأعراف». لكن يظل العرف السائد القائم في مصر، هو أن أبناء الطبقة المتوسطة وما فوقها ممن لديهم القدرة على إلحاق أبنائهم وبناتهم بالتعليم الخاص هم المتمتعون برفاهية الاختيار، حيث أن الغالبية المطلقة من تلك المدارس هي لتعليم مختلط، مع رواج نسبي أخيراً لأقسام البنات. أما أبناء الطبقات غير المقتدرة، فأولئك بلا خيارات، حيث مدارس ابتدائية مختلطة يتبرّع فيها المعلمون والإدارة بالفصل بين الجنسين في داخل الفصول، ثم يأتي الفصل رسمياً في المرحلتين الإعدادية والثانوية. والطريف أن الأولاد والبنات أنفسهم يهدمون منظومة الفصل خارج أسوار المدرسة، ولنا في جماهير الصبيان المتجمهرة عند بوابات مدارس البنات لحظة انتهاء اليوم الدراسي عبرة!