يعكس ملتقى الشباب المعرفي الثاني حال المخاض التي تعيشها الأمة العربية في شقها المعرفي من الدرجة الأولى. هذا ما يتبدى في الذهن بعد حضور فعالياته التي انتهت أخيراً مطلع الأسبوع الجاري. لم يعد الشباب هم الشباب. بل لم يعد الشباب بحاجة إلى تكرار هذه الشنشنة، فحضور ملتقى الشباب المعرفي الثاني كفيل بأن يرسم صورة عالية التفاؤل. صورة شبيهة بحال الحراك الثقافي قبل 50 عاماً، كما يقول ضيف الملتقى، عرّاب اليسار الإسلامي الدكتور حسن حنفي. المعرفيون في ملتقاهم الذي استمر لمدة ثلاثة أيام ، عاشوا في مدينة أفلاطونية، بعيدة عن ضجيج الواقع السياسي المحيط بهم، على رغم أنهم إسلاميون في الجملة، إلا أنهم تجاهلوا رفاق التوجه (الإخوان المسلمين في الأردن) وما يعدون من مظاهرة ضخمة (كما وصفتها وسائل الإعلام) في وقت الملتقى ذاته (بعد صلاة الجمعة)، فنأوا بأنفسهم عن صراع السلطة واقعياً وتناولوا مفهومه معرفياً. من ملاطفة القدر أن محاضرة مفهوم السلطة كانت قبل صلاة الجمعة إلا أن محاضرها حسن أبو هنية لم يتطرق إلى الواقع المحيط به. سعى منظمو الملتقى إلى تجاوز عمومية المواضيع الفكرية إلى الحديث عما يُشّكل إحدى ركائز المعرفة والفكر، والتباحث بعمق حول «مفاهيم تأسيسية»، إلا أن ضيوف الملتقى لم يكونوا محل اتفاق من الحضور الذي يتراوح عمره بين 18و35 عاماً. تقدمية بعض الرموز ومصادمتهم للحضور الشبابي بدت مزعجة للبعض. في حين يرى القائمون على الملتقى أن الجمع بين الدكتور حسن حنفي والباحث الشرعي سعيد فودة في ملتقى واحد مع البون الشاسع بين منظومتيهما الفكرية، هدف من أهدافهم، حتى تتطارح الآراء وتتلاقح الرؤى، فتشحذ الهمم لقراءة الفكر والمعرفة بتساؤلات وتأملات جديدة. اختيار العناوين، روعي فيه أكثر المفاهيم أهميةً وحضوراً وأكثرها شغلاً للرأي ولوجهات النظر المختلفة، وهو ما يتطلب أن يكون الضيف ملماً بالأطروحة وقادراً على إظهار جوانب المفهوم وتحيزاته والرؤى الكامنة وراءه، وفقاً لرأي القائمين على الملتقى. لم تكن وجبات الملتقى المعرفية سهلة الهضم لدى مجموعة من الشباب، إذ كانت المحاضرات من «العيار المعرفي الثقيل»، وهو ما حدا بالشباب إلى المطالبة بتنويع الجلسات، وفقاً لوعي وحجم الحضور، في حين وجد آخرون بغيتهم، بهذا المستوى المتقدم فراق لهم نخبوية الطرح العالية، التي تتطلب صعوداً من المتلقي لا نزولاً من المحاضر، فضلاً عن إدراك السياقات التاريخية للمفاهيم المطروحة (الحداثة، التراث، الأيديولوجيا، العقل، الحرية، السياسة، الدين، الفن)، وكيف تشكلت وتطورت إلى عصرنا الجاري. تم توزيع المفاهيم على نخبة من رموز الفكر، فكانت محاور هذا العام على النحو الآتي: مفهوم الحداثة مع الدكتور لؤي صافي، ومفهوم التراث مع الدكتور حسن حنفي، ومفهوم العقل مع الدكتور إلياس بلكا، ومفهوم الإيديولوجيا مع الدكتور عبدالله السيد ولد أباه، ومفهوم السلطة مع حسن أبو هنية، ومفهوم الحرية مع هبة رؤوف عزّت، ومفهوم الدين مع الشيخ الأستاذ سعيد فودة، ومفهوم الفن مع المهندس المعماري راسم بدران. بدأ الدكتور لؤي الصافي محاضرته حول مشروع الحداثة العربية وكيف أن الحداثة الغربية انبنت على الحداثة الإسلامية، باعتبار أن الأولى استمرار للأخيرة، ورأى أن مفهوم الحداثة مفهوم أساس من المفاهيم المعاصرة المهمة، وتنتج الحداثة ليس من كونه مفهوماً بل من كونه سؤالاً، الحداثة كلمة مترجمة من كلمة modernity، وما نعرفه عن الحداثة اليوم هو نشوؤها من الحداثة الغربية، التي بدأت من النهضة الأوروبية، التي أساسها الإصلاح الديني الذي نجم عنه عصر الأنوار. ولفت الصافي إلى أن الحداثة ليست ظاهرة أوروبية، بل هي ظاهرة إنسانية، فهي «تعبّر عن حال إعادة تشكيل المجتمع، وفي الحقيقة لا يوجد أي فيلسوف يذهب للتفكير من أجل التفكير، بل من أجل إعادة تشكيل ناتج من تساؤل وألم ورغبة للتغير والإنهاء لحال من الاتزان». وتساءل: هل يمكن للمجتمعات العربيّة أن تنتج حداثتها؟ أم أننا سنبقى حملاً على المجتمع الغربيّ؟ هل سيبقى العربي يدور في فلك المجتمع الغربي؟ وهو ما شكل الحداثة العربية إن كان بإمكانها إفراز حداثتها، مفيداً بأننا ما زلنا بحاجة إلى إبراز الروح الجمالية والأخلاقية لبناء المجتمع العربيّ، وهذه الروح متجذّرة في الرسالة الإسلامية، لذا علينا التفكير بطريقة خلاّقة ومبدعة لفهم الرسالة، إذنْ الروح الجماليّة والأخلاقية مستقلّة من الروح المطلقة التي أنزلت هذه الرسالة وشرّعتها، لا بد للحداثة العربية من أن تستحضر وتستلهم الروح في الرسالة الإسلامية، ولا يوجد أبداً مجتمع حداثيّ لم يتم تأسيسه على أساس ديني، ومع الرجوع إلى تاريخ نهضات الشعوب نجد أن الدين هو الأساس لتغير ثقافة المجتمع، وعلينا أن نركزّ على أن الحداثة الغربية ليست الآخر بالنسبة إلى المسلم، لأن بناءها على التراث الإسلامي، لكن جزء من الحداثة الغربية هو الآخر بالنسبة إلى الإسلام. وأوضح أن أهم خصائص الحداثة الغربية، هي اعتماد المنهجية العلمية، وإخصاع السلوك العام للقانون «العبقريّ والبسيط، صاحب السلطة والمواطن، واعتماد الديموقراطيّة التي تتأسس اعتماداً على حكم الشعب. وأشار إلى أن هذه الخصائص هي منها النموذج المدنيّ، ومنها التي حَثّ عليها الخطاب القرآني. أما خصائص النموذج الإسلامي للحداثة، فهي إخضاع الفعل السياسي للتقويم الأخلاقي ونقل السيادة من الفرد إلى الأمة والناس، وتحرير العقل من الرؤية السحريّة للكون. ونبه إلى أن القرآن يقول لنا أن كل من لديه علم بتفاصيل العقائد، ولديه القدرة على بناء صورة بربط بين الاستنتجات والظنيّات فإنك تبني ما لك باتباع الظنّ، لذا هو ليس مُلزماً بقولك أن هذه هي العقيدة الإسلاميّة، وربط بين كلامه وعنوان محاضرته (مفهوم الحداثة) أن هناك تلاقحاً هائلاً بين الحضارات كافة، بل حتى إن كثيراً من الأفكار العربية نسبت إلى حضارات أخرى لشدة التلاقح. واعتبر أن المشكلة التي نعاني منها اليوم في التفاعل مع هذه الحضارة هو «اختزال العقل لمستواه الحسيّ، فالإنسان ليس عقلاً تجربياً فحسب، بل هو روح أيضاً، وهذا هو دور الرسالة الرببانية الناجمة من التنزيل، وهذه هي أزمة المجتمع الحاليّ، إبعاده الروح عن تعريف الإنسان». وشدد على أن الأخلاق من دون إيمان بالله واليوم الآخر، قد تثير الإعجاب، لكنها لن تكون دافعاً للعمل، ولخص رؤيته في أن مهمّة الحداثة العربيّة هي إعادة ربط الأخلاق بالاتجاه العلويّ (الله) نحو الحداثة كما يتحقق التوازن بين البيان والبرهان والعرفان، إضافة إلى رفض التماهي بالتوحّد بالرؤية الأحادية التي تلغي التعدد.