على رغم تزايد إنشاء جماعات السرد في السنوات الماضية في المملكة، سواء أكانت هذه الجماعات ملحقة بالأندية الأدبية أم مستقلة عنها ثقافياً وتنظيمياً إلا أن أنشطة هذه الجماعات ظلت دون مستوى الطموح الذي ينشده أعضاؤها. أنشئت جماعات السرد في غالبها بجهود فردية من محبي فن السرد بشتى صوره: أقصوصة، قصة قصيرة، رواية، وكان الهدف الغالب من وراء نشأتها هو التعريف بالمنتج السردي المحلي قراءةً ونقداً ومقارنةً وتجاوباً مع الإنتاج العربي والعالمي في هذا المجال، وشمل ذلك التعريف بالقاصين الجدد، وجمع الساردين الجدد بالقدماء، وتشجيع التجارب الإبداعية، والربط بين السرد كفن قائم بذاته وغيره من الفنون الشعرية والمسرحية والموسيقية وغيرها، ودعوة الساردين الشيوخ لعرض تجاربهم على الشباب وأنشطة أخرى ذات علاقة بالسرد وأنواعه. وقد نجحت بعض جماعات السرد (الرياض على سبيل المثال) في كثير من هذه الأنشطة وإن كان هذا النجاح دون المستوى المأمول من لدن أعضائها ومتابعيها، وذلك بسبب غياب منهجية العمل، وغلبة العمل الفردي الارتجالي على النشاط الجماعي، وضعف استقلالية هذه الجماعات بسبب حاجتها المستمرة إلى مكان يضم أعضاءها العاملين وضيوفها المشاركين والحضور الراغبين في الاستفادة مما يطرح ويقال، ولا شك في أن حاجتها الماسة إلى (مال) كان سيدعم قدرتها على شراء ما تحتاج إليه من أعمال سردية، أو مدفوعات تذاكر سفر ومكافآت للضيوف المشاركين وغير ذلك من مصاريف إدارية وهو ما أضعف استقلالها ووضعها تحت هيمنة النوادي الأدبية المتعثرة أصلاً ببيروقراطيتها المفرطة وأنظمتها المشغولة بالهم الرسمي العام والإعلامي (الإعلاني) أكثر من انشغالها بالهم الفردي الفني الخالص لمجموعة طموحة تأمل في الرقي بنتاج السرد في وطن تصدر فيه سنوياً عشرات إن لم يكن مئات الأعمال السردية بين إبداع ونقد ودراسة وبحث. وهذا ما يدفع إلى التساؤل الذي نحاول الإجابة عليه عن كيفية الرقي بهذه الجماعات؟ لعل الحرية هي المطلب الأول، ولا أقصد حرية التعبير فذاك شأن أدبي وإبداعي، وحديثي هنا مقتصر على التنظيم، بل أقصد حرية التنظيم والاختيار. حريتها في أن تختار ضيوفها المتحدثين، وحريتها في اختيار الأعمال السردية التي ترى ريادتها وتفوقها الإبداعي، وحريتها في تنظيم مواعيد جلساتها بين المكان والزمان، وحريتها في اختيار مواضيعها الخاصة بالسرد، وحريتها في تداول الرئاسة بين أعضائها من دون تدخل من أي جهة ثقافية خارجة عنها، وحريتها في تنظيم شأنها الداخلي وعقد اجتماعاتها التنظيمية بعيداً عن هيمنة النوادي الأدبية وتدخلاتها المربكة. وهذا الحديث عن أهمية استقلال جماعات السرد تنظيميا عن النوادي الأدبية لا يهدف إلى إلغاء دور النادي أو تفريغه من أحد أهم نشاطاته، بل يهدف إلى خلق حركة سردية قوية لا يكبل اندفاعها بيروقراطية الأوراق والموافقات وطلبات الاستعطاف والنظر بعين الرحمة إلى هذا النشاط السردي أو ذاك، بل المطلوب هو أن تعمل جماعات السرد تحت مظلة الأندية الأدبية لكن ضمن نظامها الخاص بها والمقر من أعضائها. وهي لكي تقوم بدورها على الوجه الأكمل تحتاج إلى الاستقلال المادي أيضاً، وأعترف بدايةً بصعوبة ذلك، لأن جماعات السرد تقوم على مجموعة من الشباب المتطوعين وليس هؤلاء من ذوي اليسار في الغالب الأعم، ولا يمكن أن نطلب من جماعات السرد أن تعيش على التبرعات المادية أو العينية، لأن التبرعات لا تستمر وهي ذات مدى قصير جداً هذا إن وجدت وأمكن البعد عن هيمنة المتبرعين. فما زلنا كجماعة سرد وأتحدث هنا بصفتي سكرتير جماعة السرد في مدينة الرياض نطلب من القاص أو الروائي أن يتبرع للجماعة التي ستقرأ عمله بنسخ من هذا العمل، وتكبد بعضنا مصاريف تتعلق بتذاكر سفر أو كلفة سكن لهذا الروائي القادم من الخارج أو ذاك، وعلى رغم الدعم المادي الذي يقدمه النادي الأدبي في الرياض لأنشطة الجماعة بقدر المتاح (300 ريال للجلسة مشروطة بموافقة النادي المسبقة على الضيوف المدعوين) فقد بقيت قضية عدم مكافأة القاصين (القاصات) الشباب أو النقاد المتحدثين واستهداء أعمالهم محل البحث والقراءة قائمة مستمرة، ولعلها ستبقى كذلك إلى أمد عسى ألا يكون بعيدا. وأمر آخر تحتاج إليه جماعات السرد، هو زيادة عدد أعضائها سواء العاملين ضمن هيئتها الإدارية أو المشاركين في أنشطتها المنبرية والبحثية، ولكي يزداد عدد الأعضاء يجب أن تعمل الجماعات على كسب ثقة الأعضاء وبذر اليقين في أنفسهم بأن الهدف هو الرقي بفن السرد عبر الرقي برواده ومحبيه، ويستدعي ذلك أن تكون إدارة الجماعات أكثر تفرغاً لجذب المزيد من الساردين (الساردات) إلى صفوفها وأن يتم ذلك عبر جهد جماعي من إداريي هذه الجماعات وليس بجهد فردي متفرق يقوم به هذا العضو أو ذاك. وسيزداد الأعضاء وستزداد مشاركاتهم وتفاعلهم بما يخدم السرد المحلي متى ما نوقشت أعمالهم وتم تقديمها عبر الجماعة للصحف المحلية بعد مناقشتها على العموم في حضور نقاد متخصصين وجمهور متعطش للمعرفة والمتعة التي توفرها قصة قصيرة أو رواية أو عمل نقدي أو توضيح لصلة غامضة بين فن السرد وغيره من الفنون الأدبية والثقافية في أماس قصصية جميلة مدعومة بالتقنية الحديثة المتطورة في وسائل العرض والمؤثرات، ولا أرى ما يمنع العمل على تشجيع الأعمال السردية ومبدعيها بإقامة حفلات التوقيع للمجموعات القصصية والروايات والأعمال النقدية الخاصة بالسرد وأنواعه، إضافة إلى تشجيع ما تقوم به النوادي الأدبية من طباعة لأعمال أعضاء الجماعة من الساردين وطباعة ما يدور في أمسيات السرد عبر دوريات النوادي المختلفة، أو إقامة معارض كتاب مصغرة خاصة بالسرد في يوم القصة العالمي أو غير ذلك من المقترحات والأفكار الباعثة على المزيد من الحضور والتواصل بين السرد وجمهوره. وأختم هنا ب قضية مهمة أخرى يجب أن تتحملها جماعات السرد إن آمنّا باستقلالها التنظيمي، وهي أن تحسن اختيار الأعمال التي تقدمها للمجتمع الثقافي، ولا شك في أن من مهامها الرقي بإبداع الموهوبين من الشباب في مجال السرد ونقده، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب جودة الأعمال المقدمة للقراءة والدراسة والنقد، بل ينبغي أن تكون هناك منهجية واضحة في اختيار هذه الأعمال عبر لجنة مصغرة من أعضائها تقرر أحقية هذه الأعمال بالتقديم وتعريف المجتمع الثقافي بها، فالهدف هو الرقي بالأعمال الجادة التي تسهم في تطور فن السرد في وطننا وتشجيع رواده عبر تنشيط التواصل بين أطراف العملية الإبداعية: المبدع، ووسيلة النقل، والمتلقي. المبدع سارداً، ووسيلة النقل بين كتاب وصحيفة وناقد وباحث، والمتلقي باطلاعه على ما قيل وكُتب ومشاركته فيما يُدرس ويُبحث تحت مظلة النادي الأدبي وعباءة جماعات السرد.