صدر لي كتاب منذ سنوات عدة تحت عنوان «من فكر الثورة إلى نهج الإصلاح»، وكأنما كنت أقرأ وقتها في كتاب مفتوح لما سيجري بعد أحداث «الربيع العربي» وتداعياته وملابساته، ولقد كان هاجسي في ذلك الحين هو المقارنة الدائمة بين «الثورة» كتغيير جذري وبين «الإصلاح» كعملية تدريجية، ولا شك في أن لكل من الخيارين مؤيديه والمتحمسين له وأيضاً معارضيه والرافضين له، إذ إن الثوار يختلفون عن دعاة الإصلاح، وعندما قامت الثورة المصرية - على سبيل المثال – في كانون الثاني (يناير) 2011 جرى تقسيم كوادر الحياة السياسية إلى فئتين هما «الثوار» و «الفلول»... والمعنيون بالأخيرة هم أتباع النظام السابق بل وكل من كان على الساحة السياسية قبل الثورة! ونسي أصحاب هذا التقسيم أو تناسوا فئة ثالثة تقف بين الأولى والثانية وأعني بها الإصلاحيين من المؤمنين بالحلول على مراحل وفقاً لخطة مدروسة وبرامج واضحة في إطار رؤية شاملة، لذلك فإننا إذ نكتب اليوم حول موضوع تكاليف الثورة ونفقات الإصلاح فإننا نرصد حركة الشعوب في اتجاه التغيير لكي نرى أيهما أجدى للمستقبل من خلال استقرائنا للماضي وفهمنا للتاريخ واستيعابنا لتجارب الدول وخبرات الشعوب. والآن دعنا بعد هذه المقدمة نبحث في محاور المقارنة بين أسلوبي الثورة والإصلاح ودور كل منهما في صنع النهضة والانطلاق نحو مستقبل أفضل، ونوجز ذلك في النقاط الآتية: أولاً: إن الثورة إجراء استثنائي يتسم بالعنف غالباً وهي في الوقت ذاته عمل يسعى لإحداث تغيير جذري في هياكل النظام السياسي وأطر الحياة الرسمية والشعبية في آن واحد كما أنها تقوم بتأليب الطبقات الاجتماعية وفرز القوى السياسية. لهذا فهي ليست عملية مأمونة العواقب ولكنها محفوفة بالمخاطر دائماً، فهي أقرب إلى العملية الجراحية التي تسعى نحو تتبع سياسة البتر الكامل للأجزاء المريضة في الدولة والمجتمع. ثانياً: إن الإصلاح عملية تنموية شاملة تقوم على تصور كامل ورؤية متوازنة وفكر مدروس، فهي أقرب إلى العلاج البارد للحالات الحرجة بدلاً من الجراحة الباترة والعلاجات السريعة، والإصلاح يقوم على فئة متميزة من الإصلاحيين الذين تعتمد عليهم عملية التنمية والديموقراطية في الوقت ذاته، كما أن الإصلاح يشمل عملية تحديث لجوانب الحياة المختلفة ومراكز الترهل ونقاط الضعف في النظام السياسي كله. ثالثاً: إن الثورة والإصلاح معاً يقومان على عناصر مشتركة أبرزها ضرب الفساد ورفض الاستبداد وتبني مشروع نهضوي تتغير به صورة الحياة عموماً مع مواجهة حاسمة مع الفقر واقتلاع أسباب التخلف، لذلك فإن كليهما يمثل نوعاً من التصدي لظروف معينة وعلاقات متشابكة وأوضاع سيئة. رابعاً: إن الثورات تتعرض للانتكاس أحياناً والسقوط في مستنقع الاضطرابات السياسية والصراعات الطبقية والصدامات الفئوية. أما الإصلاح فمزاياه مضمونة إذا خضع للأسلوب العلمي والتفكير الرشيد كما أن حدوث التغيير الإصلاحي على مسافة زمنية واسعة يضمن قدراً كبيراً من النجاح ويعفي من الانتكاس في معظم الأحيان. خامساً: إن الشعوب القديمة والأمم العريقة تفضل دائماً أسلوب الإصلاح لأنه يتماشى مع ظروفها ويتوافق مع تاريخها ويمضي متسقاً مع أوضاع وظروف لم تتحقق فيها ضمانات التغيير السلمي للسلطة والانتقال الممنهج إلى مراحل مستقرة على مسرح السياسة وفي إطار المجتمع وتحت سيطرة الدولة التي هي الأصل في البداية والنهاية. سادساً: إن بعض الثورات هددت وجود الدول ذاتها مع أن الثورة بنت الدولة وليس العكس وإذا كانت الثورة هي المبرر الشرعي للإطاحة بالنظام القائم، فإنها تظل نموذجاً حياً للصدام المحتمل مجهول العواقب، أما الإصلاح فهو توجه يحمي العناصر الإيجابية في الدولة ولا يطيح بها من دون مبرر. سابعاً: إن الشرعية الثورية نقيض للشرعية الدستورية، فالأولى مرتبطة بمفهوم الثورة والخروقات القانونية وتغييب سيادة الدستور على اعتبار أن الثورة عمل استثنائي يجوز فيه كل شيء بينما الشرعية الدستورية تستند إلى أسس قانونية تتماشى مع الأوضاع السائدة ولا تمثل عدواناً على الوثائق واللوائح والقواعد القانونية والنصوص الدستورية، وما أكثر الجرائم التي جرى ارتكابها تحت مظلة الفعل الثوري وبمبررات تستند إلى مفاهيم سياسية وليس الى أسس قانونية. إننا نكون أمام وضع مقلوب يحصل فيه القانون على اجازة لتظهر التجاوزات تحت مظلة ثورية من دون اعتبار لما هو قائم، لذلك يمكن أن تضيع في غمار الثورة حقوق البعض وتختفي مطالب البعض الآخر بينما الشرعية الدستورية إجراء طبيعي يتماشى مع واقع الأحداث ولا يخرج عن سياق ما هو ممكن إذ تشيع القرارات الاستثنائية والمواقف غير المبررة بل يمكن أن يكون هناك نوع من الإرهاب السياسي بدعوى التغيير واستناداً إلى محاكم استثنائية مع تجاوزات واضحة في الأوضاع الطبيعية للدول التي ضربها زلزال الثورة بما لها وما عليها، أما الإصلاح فهو يظل تطوراً يمضي مع طبيعة الأمور بمنطق الأشياء ويستند إلى أسلوب علمي تشارك فيه النخبة التي تقود المجتمع، بينما في حالة الثورة فإن الشارع هو القائد الوحيد. ثامناً: إن الإصلاح مسار ممتد لا يتوقف، لذلك فإن استمراره يكون أكثر احتمالاً من الفعل الثوري الذي لا ضمان لاستمراره أو حتى نجاحه، ويذكر أن الإصلاح يمثل حشداً للعقول المستنيرة وأصحاب الأفكار المتميزة وذوي الخبرات الراسخة بينما يمكن أن تلتقط الثورة في قيادتها بعض المغامرين أو حتى الانتهازيين من المتحولين في كل عصر والمتسلطين مع كل عهد، لذلك فإن المفاجآت واردة في أعقاب الثورات بينما النتائج غالباً ما تكون مضمونة في ظل حركة الإصلاح الحقيقي الذي يقتلع الفساد قبل أن يعيد ترتيب أوضاع البلاد. تاسعاً: إن توابع زلزال الثورة قد تكون مصدراً لاهتزاز بعيد ومتكرر يطيح الاستقرار ويؤدي إلى انتكاسة محتملة على المدى القصير، كما أن لا ضمان للانفلات الأمني والأخلاقي معاً، كذلك فإن الثورات تظهر أفضل ما في الشعوب وأيضاً تدفع بأحط ما لديها لأنها أقرب إلى الانفجار منها إلى التصرف الهادئ الرصين، فالفوران لا يمكن التحكم فيه ولا توجيه مساره. عاشراً: إن الإصلاح لا بد من أن يقوم على رؤية شاملة وتفكير مدروس تشارك فيه المؤسسات العلمية والتيارات الفكرية والقوى الاجتماعية، بينما قد تعتمد الثورة على مصادر محددة قد يقف العسكر في مقدمها، لذلك لا بد من التحرك المستمر الممنهج على طريق الإصلاح بدلاً من الانسياق وراء انفعالات الثورة وضجيجها الصاخب وصوتها المرتفع. إن الثورة كلفت شعوباً كثيرة سنوات طويلة من المعاناة وتركت آثاراً سلبية ورسخت عداوات بين القوى الاجتماعية والطبقات المختلفة، كما أنها قد تضع على قمة السلطة عناصر غير مقبولة ولا مطلوبة وتطيح بالكفاءات وتستبعد أصحاب الخبرات وتجعل دائرة القرار السياسي مقصورة على مجموعة بذاتها ليست هي الأفضل دائماً. لا يتصور القارئ أنني منحاز تلقائياً لعملية الإصلاح وغير متحمس دائماً للحدث الثوري. ولكن الأمر يجب ألا يؤخذ على إطلاقه فلكل حالة خصوصية ولكل دولة ظروف ولا يمكن التعميم القطعي بأحكام تمضي على الجميع، فعندما يتفاقم الفساد ويسيطر الاستبداد ويبدو الإصلاح مستحيلاً، فإن الثورة في هذه الحالة تصبح حلاً لا بديل عنه ولا مناص منه ولا يكون أمامنا إلا الخيار الجراحي لبتر نظام قائم وفتح الأبواب لعملية إصلاحية تشارك فيها كل القوى في ظل مصالحة وطنية بين الجميع إلا من يجرى استبعادهم بقوة القانون... إننا نريد حلولاً مناسبة لكل حالة قطرية وظروف كل دولة على حدة، فلا توجد قاعدة عامة تقول إن الإصلاح أفضل من الثورة أو العكس، فخصوصية التجربة هي الفيصل في ما يمكن أن نذهب إليه. تلك قراءتنا لموضوع حيوي وملف شديد الحساسية في هذه الظروف التي تمر بها دول «الربيع العربي»! * كاتب مصري