مرة أخرى أتى من الساسة الأميركيين من يطالب، جاداً لا هازلاً، باستخدام معدن الذهب أو ما يشابهه كغطاء لما يصدر من دولارات. فهذا هو النائب عن ولاية ويسكنسن، بول رايان، يطالب، بإيجاد «سلة من المواد الخام» كغطاء للدولار. وهو الذي اختاره المرشح للرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري ميت رومني نائباً له. وقبل اختياره كان له دور مهم في مجلس النواب الفيديرالي قبل ترشيحه لمنصب نائب الرئيس. والمقصود قوله ان لهذا النائب المتطرف الى أقصى يمين الأفق السياسي الأميركي، أتباعاً، ومعجبين به كثر، يأخذون رأيه مأخذ الجد. وهدفه الحقيقي فيما يبدو هو تجريد المركزي الأميركي من قدرته على التأثير رفعاً او خفضاً لمستوى السيولة في الولاياتالمتحدة الاميركية. وهذه هي المشكلة. فلن تجادل غالبية الاقتصاديين المهنيين، بالطبع من غير من تشوه آراءهم المهنية أيديولوجية سياسية، بأنه لا غنى عن بنك مركزي «مستقل» لتسيير السياسة النقدية في اقتصاد ضخم معقد كالاقتصاد الأميركي. والسبب الأساس، وعمود الوسط، الذي يجعل المطالبة باستخدام الذهب او سلة من «مواد خام» أياً كان عدد مكوناتها، ان مستوى السيولة وجريان قنوات الائتمان، لا تؤثر فقط في القيمة النسبية للدولار - او لأي عملة أخرى- وإنما أيضاً، وقبل أي اعتبار آخر، في النشاط الاقتصادي الكلي، وبالتالي في مستوى معيشة عامة الناس، ولذلك لا بد من إدارتها وفقاً للظروف الاقتصادية السائدة برفعها او خفضها او وفقاً لبرنامج معين معلن بصورة ثابتة لا تحيد عنه، كما سبق ان طالب به البروفسور ميلتون فريدمان كما تم بيانه في مقال سابق تحت عنوان «بدائل الذهب» بتاريخ 5/6/2012. ومع ان أستاذ الاقتصاد الشهير في جامعة شيكاغو، ميلتون فريدمان كان «ليبراترياً» لا «محافظاً» ولا «ليبرالياً» فإنه اعتبر المطالبة بسلة من المواد الأولية أو الذهب كغطاء للدولار او غير الدولار، من قبيل اللغو الفكري، في الوقت ذاته الذي كان (توفي فريدمان في أواخر 2006 بعد ان تجاوز 94 سنة) يطالب بوضع سياسة نقدية ثابتة معلنة لا تتغير. والفرق بين ما كان يدعو له المتميز فريدمان وبين مطالب «مْهَبلْ» الذهب او ما يشابهه، ان توظيف الذهب او سلة من المواد سيجعل مستويات السيولة مضطربة تخضع لسعر الذهب او أسعار مكونات السلة التي تتكون منها المواد الخام، ولذلك قد تزيد مستويات السيولة، على، أو تنقص، عن المستوى المتًفقْ مع حالة الاقتصاد، فتخلق إما تضخماً مالياً او تراجعاً او ركوداً او حتى كساداً اقتصادياً. أما ما كان فريدمان يدعو إليه، فمختلف جذرياً، لأنه كان يطالب ببرمجة مستوى السيولة أوتوماتيكياً او شبه أوتوماتيكي بنسبة محددة (سبقت مناقشة تفاصيلها) معلنة مقدماً لتكون واضحة لكل أطراف النشاط الاقتصادي من مستثمرين في القطاعات الاقتصادية كافة ومقرضين ومضاربين في المنشآت المالية. وبذلك تزول الضبابية الحالية عن محاولة التنبؤ بماذا ستكون عليه مستويات السيولة في المستقبل القريب او المستقبل الأبعد. أما استخدام الذهب او سلة من المواد الخام فمعنى ذلك ان سعر الذهب او مستوى المطلوب والمعروض منه (او من مكونات السلة) آنياً والمتوقع طلبه او عرضه آجلاً هي التي تحدد مستوى السيولة. وسجلات أسواق المعادن والمواد الخام كافة بما فيها الذهب والفضة والنحاس والبترول الخام كثيرة التغيير قليلة الثبات. والتاريخ الاقتصادي يثبت ان نسبة النمو الاقتصادي في الدول الصناعية التي التزمت بغطاء الذهب لبضع عشرة سنة أو أكثر، «أقل» من نسبة النمو في الدول الصناعية الأخرى التي أدارت بنوكها المركزية بكفاءة مستويات السيولة وفقاً للظروف الاقتصادية. وسبق ان كتب فريدمان (وأحد طلابه) كتاباً أثبت من خلاله وبالأرقام المجردة ان سبب كساد 1929 المخيف كان بسبب خفض مستوى السيولة حينما كان ينبغي ان ترتفع بما يتوافق مع نسبة النمو التي سادت قبل انهيار الأسواق المالية والاقتصاد الكلي ابتداءً من تشرين الاول (أكتوبر) 1929. (*1) كلمة «مْهَبلْ» في اللهجة السعودية جمع لكلمة «مهبول» المعروفة. * أكاديمي سعودي