عندما يستسهل الإيرانيون التخلي عن عملتهم والمتاجرة بها في السوق السوداء لمصلحة عملات غربية مثل الدولار واليورو أو استبدالها بالذهب، فان ذلك يعد مؤشراً مهماً إلى مدى سوء حالهم الاقتصادي وانعدام ثقتهم بسياسات حكومتهم، وإلى مدى البؤس الذي أوصلتهم إليه السياسات المتعاقبة والمواجهة المكلفة التي تخوضها إيران مع الغرب بسبب الاتهامات المتعلقة ببرنامجها النووي. (كانت قيمة الدولار قبل الثورة الإيرانية 70 دولاراً وبلغت اليوم 40 ألف دولار!) وضع اقتصادي بائس كالوضع الذي بلغه الاقتصاد الإيراني يفترض بأي حكم أن يبادر سريعاً إلى تحمل مسؤوليته ومعالجة أسباب الأزمة لاستعادة ثقة مواطنيه بعملتهم الوطنية بسبب تأثير انهيار هذه العملة في القدرة الشرائية للمواطن، خصوصاً مع صعوبة تغطية العجز من احتياطي إيران من العملات الأجنبية بسبب تجميد الودائع الإيرانية الموجودة في المصارف الخارجية. غير أن قادة إيران، وبحسب طريقتهم التقليدية في مواجهة أزمات بلادهم، وبدل البحث في أخطاء سياساتهم والكلفة البالغة للمواجهة التي يخوضونها، اتجهوا إلى تحميل قوى «الاستكبار العالمي» مسؤولية الكارثة الاقتصادية التي تضرب بلدهم. وعندما نصف الوضع الاقتصادي في إيران بالكارثي فذلك ليس من قبيل المبالغة. لقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية الرئيسية بنسبة 80 في المئة خلال عام. كما تراجعت قيمة الريال الإيراني بالنسبة نفسها خلال العام الماضي، وهبطت 40 في المئة خلال هذا الأسبوع، وبات الدولار والذهب الملجأ الأسلم الذي يثق به الإيرانيون بدل عملتهم المحلية. ومن شأن أزمة كهذه في أي دولة تحترم مواطنيها أن تؤدي إلى سقوط الحكومة من دون تردد. لكن هذا ليس حال إيران. هنا ينهج النظام سبيل المكابرة في وجه «الاستكبار». فالمرشد علي خامنئي اعتبر أن الضغوط التي تتعرض لها إيران سببها «استقلال الأمة الإيرانية» كما وصفه. والرئيس أحمدي نجاد اتهم الولاياتالمتحدة بشن «حرب نفسية» ضد الشعب الإيراني. ويبدو أن خبرة أحمدي نجاد في الطب النفسي توازي خبرته في علم التاريخ! إذ لو صحت تهمة «الحرب النفسية» فسوف تسجل كأول حرب من هذا النوع تؤثر في قيمة العملة وأسعار الخبز واللحوم بدل أن تؤدي بالمصابين بها إلى مصحات الأمراض العقلية. وعندما يحمّل المسؤولون الإيرانيون كل «الأعداء» تبعات السياسة التي يمارسونها وحرب طواحين الهواء التي يشنونها مع الغرب، فانهم بذلك لا يفعلون سوى التهرب من مواجهة ما ارتكبته سياساتهم بحق الإيرانيين والتي أدت إلى العقوبات القاسية التي فرضتها الحكومات الغربية على إيران، تنفيذاً لقرارات صادرة عن مجلس الأمن وعن دول الاتحاد الأوروبي، التي فرضت مؤخراً حظراً على الصادرات النفطية الإيرانية قلّص إلى النصف عائدات إيران من هذا القطاع الحيوي. غير أن هذه العقوبات، وعلى رغم قسوتها، لها إيجابيات مهمة لا بد من الانتباه لها. لقد بدأت العقوبات تترك أثراً على الوضع الداخلي الإيراني، مما يؤدي إلى انشغال المواطن بهمومه المعيشية ومحاسبة حكومته على النتائج الكارثية التي أوصلت هذا البلد النفطي المهم إليها. ومن شأن ذلك أن يفتح باب الجدل أمام نقاش علني حول سلامة القرارات الحكومية ويتيح للمعارضة رفع صوتها في الشارع. وهو ما شاهدناه في تظاهرات تجار البازار في طهران هذا الأسبوع الذين كانوا يدعون إلى تجميد البرنامج النووي وإلى سقوط الحكومة ووقف تمويل القوى المتحالفة معها في المنطقة مثل «حزب الله»، فضلاً عن المساعدات التي تقدمها إيران للنظام السوري في معركته مع المعارضة والتي تصل إلى بلايين الدولارات. ومن إيجابيات هذه الأزمة أيضاً أنها تقفل الباب أمام محاولات إسرائيل نقل النزاع مع إيران في شأن ملفها النووي من مرحلة العقوبات الاقتصادية إلى المواجهة العسكرية التي تحاول حكومة نتانياهو استدراج الولاياتالمتحدة إلى خوضها. وبهذا تكون حجة إدارة أوباما الرافضة أصلاً لهذه المواجهة أن العقوبات تفي بالغرض ولا حاجة بالتالي للتورط في عمل مسلح غير مضمون النتائج، فضلاً عن مخاطره الكبرى على أمن منطقة الخليج برمتها.