«معاً على طريق الجنة»، هكذا يبهرك شعار الموقع الالكتروني لجماعة «الدعوة السلفية» المعروف باسم «صوت السلف». ولكن على بعد أمتار قليلة من مقر الجماعة بالاسكندرية، تبدو هذه «الجنة» الموعودة مجرد «فانتازيا» ومحض خيال لم يمنع أبناء الدعوة من الصراع والتناطح علناً، فالأزمة الطاحنة التي تدور رحاها داخل أروقة حزب «النور»، الابن البكر للدعوة السلفية وذراعها السياسي في مصر بعد الثورة، تبدو كاشفة للتحولات الجذرية التي يعيشها التيار السلفي في مصر. حيث يشهد الحزب الوليد معركة ساخنة بين جبهتين تكاد أن تشطره نصفين، وهو ما يؤكد أن السلفيين ليسوا بدعاً من القوم وإنما كائنات سياسية يسري عليها ما يسري على غيرها من نواميس السياسة وتقلباتها ومؤامراتها. فمنذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير والتيار السلفي يعيش مخاضاً صعباً سواء على مستوى الأفكار أو التنظيم وهو ما رصدناه في مقالات سابقة على هذه الصفحة. بيد أن الجديد الآن هو انتقال السلفية السياسية في مصر من حالة التوافق السياسي والايديولوجي إلى الصراع والشقاق، وربما الانقسام. وناهيك عن التحولات التي شهدها التيار السلفي، خاصة على مستوى الممارسة، طيلة الفترة الماضية، فإن الانتقال من السيولة إلى التأطير الحزبي والرسمي، قد خلق مزيداً من التنافس والصراع والتوتر داخل مكونات هذا التيار. لوهلة يبدو الصراع داخل حزب «النور» كما لو كان مسألة وقت، على الأقل بالنسبة لمن يعرف حقيقة الأوضاع داخل الحزب، فعلى مدار الشهور القليلة الماضية بدا بوضوح أن ثمة صراعاً مكتوماً بين قيادات الحزب، وخصوصاً في ظل حالة التماهي بين الحزب والدعوة السلفية. ولعل مصدر النزاع الحالي أمران، أولهما طريقة العمل الداخلي في الحزب، حيث يعترض بعض الأعضاء، ومنهم قيادات سابقة مثلت الحزب في البرلمان المنحل، على طريقة إدارة الحزب وكيفية اختيار الأعضاء والقيادات. وكان الحزب قد أجرى اختبارات داخلية لأعضائه من أجل تثبيت عضويتهم من منتسب إلى عامل كي يحق لهم الترشح للمناصب القيادية ولكن نتائج الاختبارات قد أثارت استياء البعض مما دفعهم إلى الاستقالة وإعلان العصيان. أما الأمر الثاني، وهو الأهم، فيتعلق بصراع الأجنحة داخل حزب «النور» ومن خلفه جمعية «الدعوة السلفية»، الحاضنة الدينية والاجتماعية للحزب، بين ما يمكن أن نسميه تياري التبعية والاستقلال. أما تيار التبعية فهو ذلك الذي يسعى إلى أن يظل حزب «النور» تابعاً للدعوة السلفية، ومجموعة الاسكندرية على الأخص، وأبرز نجومها الشيخ ياسر برهامي والقيادي عبد المنعم الشحات. ويقود هذا التيار عضو الهيئة العليا لحزب «النور» وأبرز نجومها البرلمانيين أشرف ثابت ومعه جلال المرة الأمين العام للحزب ويونس مخيون ممثل الحزب في الجمعية التأسيسية للدستور. أما التيار الثاني، فهو تيار الاستقلال، أو بالأحرى تيار الفصل بين الحزب والدعوة. ويقوده الرئيس الحالي للحزب عماد عبد الغفور ومعه مجموعة من قيادات الحزب، أبرزهم محمد نور ويسري حماد. قبل الثورة كان التيار السلفي مجرد مجموعات ساكنة من الأفراد والهيئات والجماعات التي كانت ترفض وربما تحرِّم المشاركة السياسية بأنواعها كافة، سواء حزبياً أو برلمانياً، أما بعد الثورة، فقد أصبحت السلفية السياسية أحد اللاعبين المؤثرين في صياغة المشهد السياسي المصري. وقد كشفت تجربة العام والنصف الماضيين، أن السلفيين هم في النهاية انعكاس لحركة اجتماعية متباينة أكثر من كونهم تياراً دينياً متجانساً أو متناغماً. ولعل هذا جوهر الأزمة الراهنة، فبالرغم من وجود ناظم فكري وعقائدي يجمع أبناء التيار السلفي، إلا أن افتقاد التيار لقدر من الانتماء التنظيمي أو الايديولوجي بالمعنى السياسي، كان سبباً في عدم القدرة على إدارة الصراع الداخلي بشكل سليم. واستحضار كيف نشأ حزب «النور» يشي بأن ما يحدث يبدو أمراً بديهياً، فالحزب وبالرغم من انتشاره الجغرافي فى كثير من المناطق والمحافظات، إلا أنه أشبه بجزر منعزلة لا يجمعها سوى الانتماء للدعوة السلفية بالمعنى الديني المحض. ووفقاً لرواية بعض القيادات السلفية التي قابلتها في القاهرة خلال شهري آذار (مارس) ونيسان (أبريل) الماضيين، فإن قرار نشأة الحزب قد جرى اتخاذه بسرعة ومن دون دراسة كافية كاستجابة لحالة المد الثوري التي شجعت كثيرين على الانخراط في اللعبة السياسية، بمن فيهم من كانوا يحرمونها فى السابق. ومن أجل تكوين الحزب، جرى البحث في كل محافظة عمن يعتنق المنهج السلفي وضمه للحزب بغض النظر عن مؤهلاته أو كفاءته أو ميوله السياسية ومن دون توفير فرصة حقيقية للتعارف والتعايش والتناغم بين أعضاء الحزب. ولعل ذلك ما يفسر بعض الأخطاء التي وقع فيها بعض نواب الحزب في البرلمان والذين لم تكن لديهم القدرة على فهم البرنامج السياسي للحزب أو ضبط بوصلتهم مع توجه قياداته. وقد ظن الإخوة في «الدعوة السلفية» أن قيام الحزب هو مجرد عملية إدارية بحتة قد تنجح فقط إذا حسنت النوايا بغض النظر عن التخطيط والتنظيم. وهي المشكلة نفسها التي واجهها الحزب عند اختيار أعضائه للترشح للانتخابات البرلمانية حيث لم توجد معايير حقيقية للمرشحين وإنما جرى الترشح وفقاً للعلاقات والمعرفة الشخصية خاصة فى ظل ضيق الوقت وشدة المنافسة السياسية. وبوجه عام، يمكن رصد ثلاث ملاحظات مهمة على هامش أزمة حزب «النور» ربما تمثل مدخلاً جيداً لقراءة التحولات السريعة التي يشهدها التيار السلفي في مصر: أولها أن الخلافات والصراعات داخل حزب «النور» تجري على أرضية سياسية ودنيوية (أو زمنية بلغة الدهريين)، فالأسباب الظاهرة والخفية للصراع تتعلق إما بالخلاف حول كيفية إدارة شؤون الحزب ومحاولة البعض تعيين المساحة الفاصلة بين الحزب وحاضنته الدينية والاجتماعية (جماعة الدعوة السلفية)، وإما نتيجة للصراعات السياسية والشخصية بين قيادات الحزب التي تتنافس بقوة حول حجم تأثيرها ومصالحها السياسية، وأهمها تمثيل الحزب فى المجال العام. لذا ربما لا يبدو مفاجئاً أن ينفجر الصراع داخل الحزب بعد اختيار رئيسه عماد عبد الغفور مساعداً لرئيس الجمهورية (هذه هي الحجة المعلنة التي استندت إليها جبهة أشرف ثابت عندما قررت إعفاء عبد الغفور من منصبه كرئيس للحزب). في الوقت الذي ترددت فيه أنباء عن وجود علاقة بين أشرف ثابت والشيخ برهامي مع المرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق (البعض يتحدث عن صفقة جرت من خلف الستار وبدون علم عبد الغفور لتحجيم «الإخوان» ومرشحهم للرئاسة محمد مرسي). ثانيا: تؤكد أزمة حزب «النور» أن السياسة، لا الأيديولوجيا أو الدين، هي المحرك الأساسي للسلفيين في المجال العام، وأن البقاء في الصراع السياسي هو للأقوى والأكثر ذكاء وليس بالضرورة للأصلح أو الأكثر تقوى وإيماناً. وهو ما يفسر لجوء طرفي النزاع إلى استخدام الأدوات كافة من أجل حسم الصراع لصالحهم. ومن المدهش أن أحداً لم يلجأ الى الدين أو يوظفه في الصراع، على الأقل حتى الآن، فالجميع يبرر قراراته باللجوء إلى لائحة الحزب الداخلية ومحاولة تفسيرها بما يلائم طرحه ومصالحه. في حين وصل الأمر بالمتصارعين إلى حد الهجوم والتعريض الشخصي على صفحات الجرائد والفضائيات، وهو ما يقلل من مصداقية الحزب، خصوصاً قبل شهور قليلة من الانتخابات البرلمانية المقبلة. بل الأكثر من ذلك، فإن البعض يرى أن ما فعلته جبهة برهامي-ثابت هي بمثابة «انقلاب أبيض» على عبد الغفور وجبهته. ثالثا: تبرهن الأزمة أن استمرار الخلط والتداخل، على الأقل سياسياً وإدارياً وتنظيمياً، بين النشاطين الحزبي والدعوي، هو بمثابة قنبلة موقوتة داخل التيارات الإسلامية، ما يستوجب تفكيكها قبل أن تنسف الاثنين معاً، فالعلاقة بين حزب «النور» و «الدعوة السلفية» تكاد تكون متماهية، بحيث لا يوجد تمييز أو فصل حقيقي بينهما، لا سياسياً ولا إدارياً، فعلى سبيل المثال يشغل عدد كبير من الهيئة العليا للحزب مناصب قيادية داخل مجلس إدارة جمعية «الدعاة» (الاسم الرسمي للدعوة السلفية)، أبرزهم أشرف ثابت ويونس مخيون وجلال مرة (ممثلو تيار التبعية)، في حين تبدو بوادر خلاف وانقسام داخل مجلس أمناء الدعوة السلفية المكون من ست قيادات لها مكانة كبيرة في نفوس أبناء التيار السلفي، فعلى سبيل المثال أعلن الشيخ أحمد فريد بوضوح، دعمَه ومساندته رئيس الحزب عبد الغفور، وربما يقف معه الشيخ محمد إسماعيل المقدم والشيخ سعيد عبد العظيم. في حين يدعم الشيخ ياسر برهامي بوضوح جبهة ثابت ومن معه، وهو ما سوف يؤدي في النهاية الى تشويه صورة الحزب والدعوة معاً والتقليل من مصداقيتهما لدى القاعدة السلفية وأمام الرأي العام. بوجه عام، فإن أزمة حزب «النور» على شدتها، تمهد لدخول السلفيين إلى مرحلة جديدة عنوانها العريض نهاية «اليوتوبيا» الدينية. * كاتب وأكاديمي مصري، جامعة دورهام-بريطانيا [email protected]