على رغم الخسائر التاريخية الفادحة التي تكبدتها حلب بعد احتراق نسبة كبيرة من متاجر أسواقها المسقوفة التي يعود تاريخها للقرون الوسطى، دارت اشتباكات عنيفة أمس بين القوات النظامية والمقاتلين المعارضين في الأسواق القديمة لحلب لليوم الرابع على التوالي. ووجه ناشطون وسكان لوماً حاداً إلى كل من القوات الحكومية وقوات المعارضة بسبب إصرارهما على مواصلة القتال والتمركز في ذلك الجزء التاريخي الذي لا يعوض من المدينة. كما تواصلت الإدانات الدولية للاستهانة بتاريخ تلك المنطقة وتعريضها للحرق والنهب والسلب، ودانت فرنسا تدمير جزء من التراث الإنساني، فيما أعلنت مصر استعدادها إرسال خبراء آثار لتقويم حجم الأضرار في حلب، وذلك وسط نداءات دولية متصاعدة بتدخل فوري وحاسم من منظمة اليونيسكو لحماية حلب. وقال شهود وناشطون إن اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة وقعت بين مقاتلين معارضين متحصنين داخل أحد أقسام السوق المقابلة لقلعة حلب التاريخية، وجنود نظاميين موجودين خارجه، مشيراً إلى تراجع حدتها في فترة ما بعد ظهر أمس. وأوضحت فرانس برس أن الأسواق المدرجة على لائحة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) للتراث العالمي منذ 1986، ما زالت مهجورة منذ اندلاع النيران في أجزاء منها ليل الجمعة - السبت. وقال محافظ حلب وحيد عقاد لفرانس برس: «إن الحرائق المفتعلة في سوق المدينة بحلب هي بسبب محاولة من قبل العناصر الإرهابية المسلحة إعاقة تقدم الجيش العربي السوري والتغطية على عمليات النهب والسرقة التي تعرضت لها المحلات في هذه الأسواق». وأضاف أن «عناصر الإطفاء حاولوا فور اندلاع الحرائق الوصول إلى الأسواق المحترقة لإطفاء النيران، حيث قاموا بمتابعة عملهم في المناطق التي استطاعوا الوصول إليها»، موضحاً أن أحد هؤلاء «استشهد نتيجة استهدافه بطلقة قناصة المجموعات الإرهابية المسلحة». ووفق التجار، لا وجود للقوات النظامية داخل الأسواق لكنها تقوم بإطلاق النار من حواجزها العسكرية خارجها كحيي العقبة والعواميد التاريخيين، وحتى بالقرب من الجامع الأموي. ومن غير الممكن حتى الوقت الراهن تقويم حجم الأضرار التي لحقت بالأسواق بسبب الاشتباكات المستمرة منذ أيام. وقال أحد تجار الخيطان الذي تقدر قيمة بضائعه بملايين الليرات السورية «المشكلة الأكبر أننا لا نعلم شيئا ًعما حل بمتاجرنا، وكل ما نعرفه سمعناه من الآخرين». وأكد عقاد غياب الإحصاءات الدقيقة عن حجم الخسائر والدمار «نتيجة عدم تمكن موظفي مديرية المدينة القديمة من الدخول إلى الأسواق بسبب استهدافهم من قبل قناصة المجموعات الإرهابية لكن، لا شك في أن السوق التي تعتبر عصب الحياة الاقتصادية أثرت بدرجة كبيرة في اقتصاد القطر (سورية)». وتعد الأسواق القديمة في حلب واحدة من المراكز الأساسية للتجارة في الشرق الأوسط، ويزيد عدد محالها عن 1550 حانوتاً تؤلف 39 سوقاً تعد من أطول الأسواق المسقوفة في العالم، سميت غالبيتها نسبة إلى المنتج الذي تبيعه كالحبال والعباءات والعطارة، في حين اكتسبت بعضها اسم مسقط زوارها فعرفت باسم سوق اسطنبول أو عمان أو الشام وغيرها. من جهة أخرى شهدت مناطق مختلفة في حلب اشتباكات أمس، لا سيما أحياء الشعار والحيدرية والصاخور ومساكن هنانو وطريق الباب والنصارى الشرقي للقصف. وكانت أحياء الصاخور والشعار وسليمان الحلبي والكلاسة في المدينة تعرضت ليل أمس للقصف، وفق المرصد. كما أشار المرصد إلى «تعرض مبنى محافظة حلب للقصف بقذيفة من قبل مقاتلي الكتائب الثائرة المقاتلة الأمر الذي خلق حال ذعر للموظفين وأخرجوا من المبنى، وقطع الرابط بين ساحة سعدالله الجابري (وسط) والقصر البلدي». وتشهد حلب العاصمة الاقتصادية لسورية وكبرى مدن الشمال أعمال عنف منذ 20 تموز (يوليو) الماضي، بعدما بقيت لفترة طويلة بعيدة من النزاع المستمر في سورية منذ أكثر من 18 شهراً، وحصد أكثر من 30 ألف قتيل، وفق المرصد. ودانت فرنسا التدمير الذي يطاول أسواق حلب التاريخية. وقال الناطق باسم الخارجية الفرنسية فيليب لاليو إن «فرنسا تعبر عن إدانتها الشديدة لتدمير أسواق حلب التي ترقى إلى القرون الوسطى بألسنة اللهب الناجمة عن عمليات القصف العنيفة... ويترجم هذا الحدث كثافة العنف في سورية ويؤكد أن النظام لا يتراجع أمام أي شيء لمتابعة قمعه الأعمى». وأضاف الناطق في تصريحه «نكرر إدانتنا الشديدة لعمليات القصف التي تستهدف المدنيين في حلب وفي الأنحاء الأخرى من البلاد». وأوضح أن «العنف الذي يستخدمه النظام ضد شعبه يعادل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما أعلن لتوه مجلس حقوق الإنسان في 28 أيلول (سبتمبر). وجميع الذين يشاركون في هذه الجرائم يجب أن يحاسبوا». وخلص لاليو إلى القول: «إن فرنسا ما زالت تقف إلى جانب الشعب السوري وستواصل ضغوطها على النظام السوري لمنعه من ارتكاب مجازر جديدة». وفي القاهرة، أعلن مسؤول مصري استعداد وزارة الدولة لشؤون الآثار لإرسال خبراء مصريين لتقويم حجم الأضرار التي تعرضت لها حلب. وقال محمد إبراهيم وزير الدولة لشؤون الآثار المصري في اجتماع طارئ دعت إليه المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) لبحث سبل حماية التراث الحضاري السوري: «إن ما يحدث في سورية من نهب مستمر للممتلكات الثقافية وسلبها... يعيد تكرار المشهد المأسوي في العراق»، في إشارة إلى نهب كثير من القطع الأثرية العراقية عقب الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003. وأضاف في الاجتماع الذي يشارك فيه أثريون عرب وتنظمه كلية الآثار بجامعة القاهرة لمدة يومين أن «المواجهات العنيفة في كثير من المدن التاريخية السورية» تعرض التراث الإنساني للتدمير، واصفاً ما يحدث بأنه «عبث» يدعو المجتمع الدولي وخصوصاً المنظمات العلمية الأثرية وعلى رأسها اليونيسكو إلى التدخل لحماية المنشآت والتراث الحضاري من التدمير. وقال عبدالعزيز صلاح ممثل (الإيسيسكو) إن التراث السوري «الفريد أصبح مهدداً بالتدمير والنهب والسرقة» مطالباً المجتمع الدولي بالتدخل للضغط من أجل وقف القصف الدائم للمدن السورية ولمعالمها الأثرية والذي «يعد انتهاكاً صارخاً للمواثيق الدولية». وحمل (اليونيسكو) المسؤولية عن الحفاظ على سلامة هذا التراث. وأدرجت حلب ضمن قائمة التراث العالمي عام 1986 واختيرت عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006. وقالت (إيسيسكو) في موقعها الإلكتروني إن الاجتماع يتناول دراسة سبل حماية التراث الحضاري في مدينة حلب «وصياغة برنامج عملي للتدخل السريع لإنقاذ التراث الحضاري المعرض للأخطار سواء بالترميم والصيانة أو بالتوثيق والجرد للمعالم الأثرية التي تعرضت للتدمير والتخريب والسلب والنهب».