يتغلغل الروائيّ الفرنسيّ باتريك موديانو في قلب المجتمع الباريسيّ عبر ولوج عالم المقهى الذي يشكّل بوّابة جامعة لمختلف طبقاته وفئاته، وذلك في روايته «مقهى الشباب الضائع»، (ترجمة محمد المزديوي، مقاليد، الملحقيّة الثقافيّة السعوديّة في فرنسا). يسعى موديانو في عمله إلى أن يجعل من حبّ اللحظات الحيويّة وسيلة لمقاومة استبداد الزمن. يحكي سيراً متقاطعة، تحتلّ لوكي محور الارتكاز فيها، ولوكي فتاة في العقد الثالث من عمرها، تعيش وحيدة في باريس، ترتاد مقهى كوندي الذي يقصده الكتّاب والفنّانون عادة. يكون المقهى نقطة التلاقي للأصدقاء، يقضون فيه أوقاتاً طويلة، حتّى يبدون فيه كأنّهم في بيوتهم، يألفون أجواءه ومرتاديه، يستمتعون بصرعات الموضة التي تجتاحه بين الحين والآخر. يحتلّ موقعاً أثيراً في نفوسهم، فلا يهدأ لأحدهم بال من دون أن يزوره ويستكشف تفاصيله، ويتقصّى جديده، ويتسقّط الأخبار والإشاعات التي تنتشر في أوساط روّاده. يتعدّى اهتمام كثير من مدمني مقهى كوندي إلى الانشغال بعادات وطقوس بعضهم بعضاً، إذ يحمل أحدهم دفتراً ويدوّن فيه أسماء الزبائن وأشكالهم ومواعيد ذهابهم وإيابهم، والمدّة التي يقضونها في المقهى، وكذلك مقرّات إقامتهم وعملهم، كأنّه في صدد تقديم فهرسة متكاملة ليوميات المقهى الذي يتحوّل من مكان للترفيه والترويح وملتقى للأصدقاء إلى كائن مستقلّ بحدّ ذاته، يتّخذ شكلاً ووجوداً لدى مدمنيه. تلتقي في مقهى كوندي ثلّة من الأصدقاء الذين تجمعهم هواياتهم وتوجّهاتهم الأدبيّة والفنّية على اختلاف أعمارهم، وتفرّق بينهم ظروف العيش ووسائل العمل. من تلك الثلّة: لوكي، زكريا، جون ميشيل، فريد، علي شريف، ميراي، أداموف، دون كارلوس، دي فالا... وغيرهم. تختلف لوكي عن الآخرين بحركاتها وملبسها، إذ تضيف إلى ثيابها لمسة غير معهودة لدى مرتادي المقهى الذين يحملون كتباً في أيديهم، يضعونها بإهمال متعمّد على طاولاتهم، ثمّ لا تلبث لوكي أن تتماهى معهم، لتحمل كتاباً في يدها مثلهم، ليكون جواز سفرها إلى أجوائهم، أو بطاقة إقامة تشرعن حضورها معهم، وذلك بعد أن تساءل البعض عن سبب قدومها المفاجئ إلى المقهى واختلاطها بمرتاديه الذين يغدو المقهى المَعْلم الوحيد الذي يربطهم بها، في حين يجهلون عنها كلّ شيء، حتّى اسمها الحقيقيّ. بمقدار ما يكون المقهى نقطة اتّفاق، فإنّه يشكّل منطلقاً للخلاف والاختلاف، شأنه في ذلك شأن بعض المعالم المحيطة به أو المجاورة له، ويشترك مع نهر السين الذي يمرّ بالقرب منه في أنّه يفصل ويوصل في الوقت نفسه بين الجهات والناس. وقد كان المقهى سبيلاً إلى الفراديس المتخيّلة لدى مجموعات تتعاطى الأدب والفنّ. يوزّع موديانو الأدوار في روايته، كأنّه في صدد تصوير طاولة حوار في مقهى، يفسح في المجال لكلّ شخصيّة أن تحكي تصوّراتها وانطباعاتها. أصوات تتبادل استلام السرد، تروي سيرتها الممزوجة بسير الآخرين من مرتادي المقهى، تحضر لوكي كنقطة مركزيّة تدور من حولها الحكايات وتؤدّي إليها باعتبارها وجهاً ثابتاً في الذواكر باختلافها وتميّزها. يقرّ بعضهم بأنّ هناك مَن يحبّ الاحتفاظ ببعض الوجوه الثابتة وسط أمواج البشر المتدافعة، لتشكّل تلك الوجوه نقاطاً ثابتة ومعالم بشريّة وسط دوّامات المدن الكبرى. يقدّم بعضهم نفسه في المقهى باسم آخر وهويّة أخرى، يختار شخصيّة غير تلك التي يكون عليها في عمله وحياته خارج المقهى، يتحرّر من أعباء الواقع، يكون المقهى مُستراحاً ومستودعاً للأسرار ومنطلقاً لتجارب جديدة. يتعرّف إلى جوهر الأماكن، يحوم حولها، يتشرّب روحها عسى أن يكتسب سحرها ويألف حميميّتها، ليتمكّن من البدء بجولة أكثر ثقة بالنفس بعد الزعزعة التي تنالها في الواقع القاسي. يحكي كيزلي الذي يقوم بدور التحرّي أحياناً ضرورة أن تكون للمرء نقاط علّام ثابتة وسط خطوط الهروب والآفاق الضائعة، لئلا يقع فريسة شعور بالضياع وبأنّه يبحر وفق الصدفة، ويتمنّى أن يحاول المرء نسج الروابط وجعل لقاءات الصدفة أكثر استقراراً. أثناء تحرّيه عن لوكي بتكليف من زوجها الذي هربت منه ومن بيته، يتعرّف كيزلي إلى هويّتها الحقيقيّة من طريق عميل سرّيّ، يكتشف أنّ اسمها جاكلين ديلانك، وسبق أن تمّ القبض عليها مرّتين من جانب الشرطة والسبب هو تشرّد الأحداث. يكشف بعض التفاصيل عن محطّات تنقّلها ومقرّات إقامتها الموقّتة، ونسخة عن شهادة ميلادها. كما يعرف كذلك أنّها لم تقبل في المدرسة العليا وأنّها كانت تكذب في شأن دراستها في مدرسة للغات الشرقيّة. يحتفظ كيزلي لنفسه بتلك الأسرار التي كانت ألغازاً لأصدقاء لوكي التي تختار لنفسها طريقها الخاصّة بعيداً من زوجها وماضيها، يسهّل كيزلي لها عملية التضليل ويقود زوجها إلى مسالك مغلوطة بعيدة منها، ليمنحها الوقت كي تظلّ بعيدة من المتناول وحرّة في تحرّكاتها، مستمتعة بمقهاها وشبابها وضياعها... لوكي التي تتخفّف من ماضيها، يغدو المقهى نقطة بداية جديدة لها، تختار سبيلها بمفردها من دون أيّ وصاية، تشعر بجزء من حياتها ينتهي، تقرّر مصيرها، تلقي بالحياة التي كانت مفروضة عليها خلفها. يعاودها أحياناً شعور القلق الذي يستبدّ بها في كثير من الليالي، شعور أقوى من الخوف، إحساس بأنّها قد تُركت وحيدة مع نفسها من دون أيّ حقّ بالرجوع. تقرّر التعرّف إلى الناس، تكتفي بارتياد المقهى الذي يكون بوّابتها إلى حياتها الجديدة، ونافذتها للإطلالة على حياة الآخرين، تشعر أنّ لديها ثقوباً سوداً في ذاكرتها، ولا سيّما أنّ بعض التفاصيل يجتاح ذهنها بفوضويّة مؤلمة، وهي تصمد، تناضل ضدّ نفسها، تحاول التحكّم بذاتها، لا تتعلّق بالأوهام، لا يشفيها المقهى على رغم دوره الإسعافيّ، حيث تجثم على صدرها الوساوس المرعبة التي تودي بها إلى الإلقاء بنفسها من نافذتها، وذلك بعد مجاهدة مريرة للذات، ومحاربة محمومة ضدّ اليأس المدمّر. تكون تلك النهاية إيذاناً بوجوب اقتفاء مصائر روّاد المقهى الشباب الضائع الذي كان بالنسبة اليهم وشماً في الذاكرة، يمتاز بكونه جسراً للعبور إلى الماضي، وكأنّه وسيلة فعّالة لمقاومة آثار الزمن القاهرة. يصوّر موديانو جغرافيّاً مدينة باريس التي تنقسم إلى أحياء للفقراء وأخرى للأثرياء، ويعلّق على تلك المناطق التي يصفها بالمحايدة، والتي تضمّ خليطاً غير متجانس من مختلف الفئات والطبقات والجنسيّات. ويصوّر كيف أنّ الأمكنة لا تعود بتلك الأهميّة حين تفقد معالمها البشريّة التي تشكّل روحها وجمالها. كما يلتقط كذلك أثر الزمن على بعض ممّن يكون هدفهم الوحيد من السفر في الذاكرة والخيال هو التوجّه إلى الدفء المفقود والحميميّة المنشودة، وذلك هرباً من صقيعيّة المشاعر وبؤس المفارقات. موديانو الذي حاز عدداً من الجوائز الأدبيّة الرفيعة منها جائزة غونكور، وجائزة الأكاديميّة الفرنسيّة الكبرى للرواية، يتميّز بانهمامه بتسليط الأضواء على الهويّة وفشل الإنسان، وذلك بغية كشف مكامن الخلل، عسى أن يساهم بقسطه في تبديد اليأس وبثّ الأمل في النفوس.