قادني الحديث في قناة الإخبارية السعودية بمناسبة اليوم الوطني ال«82» عن سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية، إلى نقاط ومرتكزات أساسية تميز السياسة الخارجية السعودية منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، عن غيرها، إذ ارتكزت سياستها الخارجية على رؤية وقراءة مستقبلية متأنية ثاقبة لتطور الأحداث في المنطقة وفي العالم، استطاع من خلالها الملك المؤسس أن يجنب بلده وشعبه مفاجآت تلك التطورات، ما جعله شخصية سياسية فريدة على المعطيات التي يملكها في ذلك الحين. عندما استطاع الملك عبدالعزيز، رحمه الله، استعادة الرياض، اعتقد الكثير من الناس، خصوصاً السياسيين منهم، أنه سيكتفي باستعادة حكم إمارته في الرياض، لكنهم لم يعرفوا أو يتوقعوا أن يكون طموح الملك عبدالعزيز هو تكوين دولة قوية تستطيع البقاء والديمومة، وعدم الاكتفاء بسلطنة أو إمارة، تكون عرضة للمفاجآت والأطماع الخارجية، ولذلك منذ نجاحه في استعادة الرياض وعيناه على باقي إمارات المنطقة في نجد والحجاز والشرقية والجنوب وغيرها من المناطق، لتوحيدها في دولة واحدة وشعب واحد. من ميزات الملك عبدالعزيز، رحمه الله، درس موازين القوى الدولية والإقليمية والتعامل مع القوى الصاعدة، وهو ما جعله في عام 1344/ 1926، ينشأ «مديرية الشؤون الخارجية» في جدة، كنواة لوزارة الخارجية، بموجب قرار ملكي صادر في عام 1349/ 1930 ويولي ابنه فيصل عليها، وهو المهتم بالشؤون الخارجية، ولتصبح أول وزارة يتم إنشاؤها في المملكة، ويظلّ الأمير فيصل يتولى مهماتها بعد وفاة والده وحتى عند ولايته للعهد، وبقيت تحت مسؤوليته حتى وفاته، رحمه الله، إذ استشف والده قدراته في السياسة الخارجية، ما جعله يوكل إليه كل المهمات الخارجية كزيارة عصبة الأمم وبريطانيا وغيرهما من المهمات. كانت اللقاءات التي عقدها مع زعماء العالم دليلاً على اكتساب مملكته أهمية سياسية مؤثرة، إذ مثل لقاؤه مع روزفلت وتشرشل، وهما أهم زعيمين في ذلك الوقت، نقطة ارتكاز وانطلاق وتوجه في سياسته الخارجية، ففي كانون الثاني يناير 1945/ 1364 لبى دعوة الرئيس الأميركي للقائه بقوله «هذه مصلحة ننتهزها لمساعدة فلسطين وسورية ولبنان»، وتم الاجتماع في البحيرات المرة، يوم الخميس الثاني من ربيع الأول 1364/ 15 شباط (فبراير) 1945 على ظهر الطراد الأميركي كوينسي، عبرّ الرئيس الأميركي عقب ذلك اللقاء عن شديد إعجابه بشخصية الملك عبدالعزيز، مبدياً حرصه على تكرار هذه الفرص بالالتقاء بقادة العالم لحل المشكلات الدولية المستعصية، بينما انتهز الملك عبدالعزيز فرصة اللقاء لشرح ما تعانيه سورية ولبنان من ظلم الاحتلال الفرنسي، مركزاً بشكل كبير على حق العرب في فلسطين، والظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وهو ما أصبحت منذ ذلك الوقت قضيته الأولى، ومن بعده أبناؤه، وأحد المرتكزات الرئيسة للسياسة الخارجية السعودية. وبعد لقاء الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت، وخلال وجوده في مصر تم لقاء بينه وبين رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بصحبة وزير الخارجية أنطوني إيدن وآخرين من كبار السياسيين والقادة العسكريين البريطانيين، في مقر إقامة الملك عبدالعزيز في مصر، فاستقبلهم الملك عبدالعزيز الذي اجتمع منفرداً بتشرشل لمدة ساعة، شارحاً له معاناة الشعوب العربية في فلسطين وسورية ولبنان، ومذكراً تشرشل بمسؤولية الدول الغربية عن معاناة هذه الشعوب، إذ رسم في ذلك اللقاء دليلاً آخر على أهمية الدور الذي سوف تلعبه المملكة العربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط. أما إقليمياً، فقد مثل لقاء الملك عبدالعزيز مع الملك فاروق، خلال زيارته مصر عام 1946، والحفاوة التي استقبل بها، رسمياً وشعبياً، إذ كانت تلك الزيارة رداً على زيارة الملك فاروق عام 1945 للمملكة، مؤشراً على صعود أهمية الدولة الناشئة في الجزيرة العربية عربياً، لأنها كانت الدولة العربية الوحيدة في ذلك الوقت التي لم تكن تقع تحت احتلال أو انتداب أجنبي، ما أعطاها مساحة للتحرك المستقل في المطالبة بحقوق العرب والمسلمين من دون التقيد باعتبارات المحتل أو صاحب الانتداب، وهذه إحدى الميزات التي ميّزت السعودية عن غيرها من دول المنطقة، أي تحررها من قيود المحتل أو الانتداب. كما أن الملك المؤسس استطاع أن يستفيد ويجذب العقول والخبرات العربية والدولية في إدارة الدولة الناشئة، حتى أن الكثير منهم وصل إلى مراتب عليا في الدولة، كرشاد فرعون من سورية، وفيلبي من بريطانيا الذي أسلم بعد لقائه بالملك المؤسس، وغيرهما من الخبرات في ذلك الوقت، وهي رؤية ثاقبة للملك عبدالعزيز، انتهجها من بعده أبناؤه واستمروا عليها، وجعلت من المملكة مقصداً للخبرات والعقول الإسلامية والعربية، وكذلك ملجأً لطالبي الأمان من الثوار العرب، كسلطان باشا الأطرش من سورية، أو من الفارين بدينهم من الاضطهاد. ارتكزت السياسة الخارجية السعودية منذ التأسيس على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، وعدم السماح للغير بالتدخل بشؤونها الداخلية، وهو نهج أكسبها احترام الجميع، سواء في المحيط الإقليمي أو الدولي، ولذلك قصدها الجميع في البحث عن الحلول في الكثير من المشكلات الإقليمية والدولية، فكان لها الدور الفاعل في معالجة القضايا العربية، من القضية الفلسطينية، إلى القضية اللبنانية والقضية العراقية، وانتهاءً بالقضية السورية، ما جعلها رقماً فاعلاً في المحيطين الإقليمي والدولي. السياسة الخارجية التي انتهجها الملك عبدالعزيز، رحمه الله، كانت امتداداً لسياسته الداخلية التي اعتمدت على نهج الباب المفتوح، واستقباله الناس في المكان نفسه الذي يستقبل فيه زواره الأجانب، سواء رؤساء وفود أو سفراء، وهو النهج الذي اتبعه أبناؤه من بعده، فجنب هذا النهج المملكة الأزمات التي عصفت وتعصف بالمنطقة، ولذلك نجح الملك المؤسس في تأسيس هذا المشروع الوطني الكبير - المملكة العربية السعودية - الذي يعتبر أكبر مشروع وحدوي عربي في التاريخ الحديث للأمة العربية. إن الدور السياسي المكمل للمملكة، والذي قام به، من بعد الموحد، الملوك الأبناء، سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، جعل منها رقماً صعباً وفاعلاً في المحيط العربي والإقليمي والدولي، أقرب مثال على ذلك الجولة العالمية التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إذ زار خلالها معظم القوى الكبرى والناشئة في العالم، أكمل من خلالها علاقات المملكة المتوازنة مع تلك القوى، خصوصاً دول الشرق كالصين وروسيا والهند، مراعياً بذلك الدور الاقتصادي والسياسي والروحي للمملكة. * أكاديمي سعودي. [email protected]