يعيد منزل عبداللطيف الملا، والمعروف في الأحساء ب»منزل البيعة»، في كل عام مع مناسبة اليوم الوطني، إلى أذهان الأحسائيين، ذكرى مضى عليها أكثر من قرن وربع القرن، عندما تحول المنزل إلى مركز لمبايعة الأحسائيين الملك عبدالعزيز آل سعود. وحينها أصبح المنزل مع مرور الزمن أهم معلم أثري، يجسد التلاحم بين القيادة والشعب. ويقع «منزل البيعة» في وسط حي الكوت في مدينة الهفوف، وتقدر مساحته بأكثر من 705 أمتار مربعة، وبني في العام 1203ه، وبناه عبدالرحمن بن عمر بن محمد الملا، الذي كان يشغل منصب قاضي الأحساء في فترة الإمام سعود بن عبدالعزيز مؤسس الدولة السعودية الأولى. وخضع المنزل لترميمات عدة، كان آخرها في العام 1418ه. وتحول إلى موقع سياحي أثري يقصده الدارسون والسياح، على رغم صعوبة الوصول إليه، بسبب وقوعه في وسط منازل سكنية، ولا يزال يحتفظ بمخطوطات وأدوات أثرية. ويعيش الزائر لهذا المكان تجربة فريدة من نوعها، إذ ينفصل عن العالم الخارجي ليصل به الخيال إلى العام 1331ه، وبالتحديد يوم الإثنين الساعة السابعة مساءً، حين دخله الملك عبدالعزيز ليقيم في إحدى غرفه. ومنحت زيارة الملك المنزل خصوصية كبيرة، إلى جانب سمعته الدينية والثقافية والعلمية، ويقول محمد أحمد عبداللطيف الملا، الذي عاش في المنزل ما يقرب من سبعة عقود، وهو أحد أحفاد صاحب المنزل: «إنه ليس مجرد منزل عائلي بسيط، بل هو أكبر من ذلك، حيث كان مقصداً للعلماء والمشايخ والمثقفين والشعراء، من خلال الجلسات التي كانت تعقد فيه، وعرف بحراكه العلمي، قبل أن يشرفه ويقدم إليه الملك عبدالعزيز آل سعود «طيب الله ثراه»، ليضيف إليه مكرمة أبوية حانية، ويخلده في ذاكرة التاريخ والوطن. وروى الملا حكاية ارتباط المنزل بالوطن، وتحديداً باليوم الوطني، ويذكر أنه في عام 1309ه، زار الإمام عبدالرحمن آل فيصل، وهو في طريقه إلى الكويت، الأحساء ومعه أبناؤه عبد العزيز ومحمد وعبدالله بن جلوي، وتشرف بزيارتهم مفتي الأحساء وقاضيها الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن الملا، وقدم لهم دعوة لتناول الغداء فقبل الإمام عبدالرحمن الدعوة، وحضر لمنزل البيعة بصحبة أولاده ومرافقيه، وعندما أراد المغادرة أهداه الشيخ عبداللطيف نسخة من صحيح البخاري، فقبلها شاكراً وكانت هذه الزيارة البذرة الأولى في تاريخ هذا المنزل. ويشير الملا إلى أن الزيارة الرسمية الثانية إلى المنزل، كانت للأمير عبدالله بن جلوي بن تركي آل سعود، وكانت في العام 1318ه، حيث أقام عند جدي ثلاثة أيام، وكان غرضه من الزيارة معرفة ما يدور في الأحساء، إذ كان الحكام في ذلك الوقت من العثمانيين، فأخبره جدي بأن الأمور متدهورة والأمن مفقود. ولا تزال الغرفة التي أقام بها الملك عبد العزيز تحتفظ بتفاصيلها القديمة، ولا يزال السرير الذي نام عليه موجوداً في ذلك المكان، يقول الملا: «حفظت هذا السرير من أن يضيع أو يتلف، وكنت أعتني به عناية خاصة، حتى أن البعض عرضوا عليّ مبالغ كبيرة لأتخلى عنه، لكنني رفضت بشدة، لما يمثله بالنسبة لي ولعائلتي بل وللأحسائيين من قيمة تاريخية كبيرة لا يمكن تعويضها بالمال، حتى تمت عملية الترميم الأخيرة ليستقر السرير في مكانه السابق من دون تغيير». وأضاف: «غرفة النوم تلك تحمل ذكريات كبيرة وكثيرة جداً، فقد نام فيها الملك عبدالعزيز مع إخوته سعد وعبدالله، وابن عمه الأمير عبدالله بن جلوي بن تركي، ومحمد بن عبدالله آل الشيخ خال الملك فيصل، وعن اللحظة التي منحت هذا المنزل لقب منزل البيعة يقول: «توافد أهالي الأحساء على المنزل ليقدموا للملك عبدالعزيز بيعة الولاء والطاعة والنصرة، ونادى المنادي فوق أسوار الكوت (وسط مدينة الهفوف)، أن الحكم لله ثم للإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن، وعندما علم الأتراك أطلقوا مدافعهم من قصر إبراهيم». ويضيف: «قام الإمام عبدالعزيز من المجلس وكان يبغي التفاوض مع الأتراك، فأشار عليه جدي عبداللطيف أن ينتظروا إلى وقت صلاة العصر، حتى يذهبوا للقصر للتفاوض مع المتصرف التركي، وكان ذلك حين توجه جدي ومعه محمد بن شلهوب وهو من رجال الملك عبدالعزيز، والشيخ أحمد بن عبداللطيف، وتم التفاوض مع الأتراك والاتفاق على خروجهم من الأحساء، وكتبت الشروط وتوجه بها الشيخ أحمد إلى الإمام عبدالعزيز للإطلاع عليها وإقرارها وختمها». ويقترح، في سبيل المحافظة على منزل البيعة، أن «تنزل ملكيات المنازل المحيطة به، فيجب أن تثمن ويعطى أصحابها المبالغ المالية لتهدم وتحول إلى ساحة كبيرة، ويظهر المنزل بوضوح للمارّة». ويحتفظ المنزل بأبرز الأدوات التي ارتبطت بيوم البيعة، مثل الصندوق الخشبي ويعرف ب«المشتخته»، وكتبت عليه وثيقة المعاهدة والمبايعة، وحفظت في داخله، إلى جانب سرير الملك عبدالعزيز بعتباته الثلاث، والدهاليز، والطبق الكبير الذي تناول فيه الملك وجبة الغداء المشهورة، التي جمعته بأعيان الأحساء. إضافة إلى أسلحة، ومقاعد من قماش أحمر أحضرت من ميناء العقير، ويرجح أن يكون أحدها هو نفسه الذي جلس عليه الملك عبد العزيز أثناء اجتماعه مع الرئيس الأمريكي. ويعد الباحث في التاريخ والتراث خالد الفريدة المنزل «واحداً من الرموز المهمة في الأحساء والوطن، والتي تذكرنا بالمؤسس وحكمته العالية في التواصل مع الشعب، وحرصه على أن يذهب إلى الناس قبل الفتح وهذه قمة الديموقراطية، وهو نقطة تحول مهمة في تاريخ الأحساء»، مضيفا: «نحن سعداء بالاهتمام الذي يحظى به هذا الموقع الأثري، حتى أننا نشعر بسعادة غامرة حين نقترب من السرير الذي نام عليه الملك عبد العزيز، ونشتم تاريخ المحبرة التي استخدمت لكتابة المعاهدة، وأدوات أخرى تمنح المنزل واقعية تاريخية مهمة». وأشار إلى أن «توجيه الهيئة العامة للسياحة والآثار بفتح ثلاثة مواقع أثرية أمام الجمهور خلال اليوم الوطني، وهي منزل البيعة، وقصر إبراهيم، ومدرسة الأحساء، وجميعها ستحوي فعاليات وأنشطة مختلفة وستقدم فيها الجوائز من الهيئة، وستقدم فيها محاضرات وندوات وأمسيات شعرية وقصصية، إلى جانب نشاطات أخرى مختلفة».