الاستبداد يعتاش على العنف: فهو عماد وجوده وضمان استمراره وأداته الأولى والأخيرة. الاستبداد من دون عنف، كالديموقراطية من دون انتخابات، لا يستقيم. وقد أثبت نظام الاستبداد السوري هذه البديهية خلال وجوده المتطاول على مدى أكثر من أربعة عقود. فهو بدأ عنيفاً ب «حركته التصحيحية» عام 1970. ثم ثبّت أركانه بتطوير أدوات عنفه عبر إنشاء أجهزة استخبارات وفصائل عسكرية مستقلة ومتعددة، تأتمر كلها بأمر الرئيس وتنتمي إليه وتستبطن العنف وتنوع في أساليب استخدامه لكبح أي بادرة تأفف أو معارضة. ثم كشّر النظام عن أنياب عنفه في قمع حركة الإخوان المسلمين المسلحة قمعاً وحشياً قتل فيه ليس فقط مناوئيه المسلحين وإنما الكثير من أفراد عوائلهم وغيرهم من الضحايا الأبرياء في مدن سورية عدة توّجها بمذبحة حماة عام 1982. وأتى نظام الإبن بعد أبيه لكي يستمر في هذا التراث، وإن بدأ بشكل ناعم في السنوات العشر الأولى من حكمه، ولكنه أثبت أنه لا يحتاج الى كثير استثارة لكي يجنح إلى العنف الشديد والعبثي أحياناً لكي يحمي استبداده خلال سنة ونصف السنة من الثورة السورية. الثورة أيضاً تستخدم العنف كوسيلة تغيير جذري، وإلا ما كانت ثورة. فالثورة هبةٌ شعبيةٌ ضد نظام غاشم قائم لم يسمح بأي وسيلة أخرى للتعبير عن الرفض والمطالبة بالتغيير. فلو كانت الأنظمة السياسية المستبدة في فرنسا الملكية وروسيا القيصرية وإيران الشاهنشاهية تسمح بمتنفس للتعبير السياسي المعارض لما قامت الثورات الفرنسية والروسية البلشفية والإيرانية ولرأينا انتقالاً هادئاً للسلطة وكفى الله المؤمنين شر القتال. طبعاً هناك نظرية المقاومة السلبية أو اللاعنفية التي اقترحها المهاتما غاندي في ثلاثينات القرن العشرين ووضع قواعدها في السنوات الأخيرة عالم الاجتماع الأميركي يوجين شارب، والتي استخدمتها بعض حركات الاحتجاج بنجاح في صربيا وأوكرانيا وأخيراً خلال ثورة 25 كانون الثاني (يناير) في مصر وثورة اليمن، وبدرجة أقل نجاحاً بكثير في مناطق أخرى. هذه الحركات اللاعنفية لا يمكنها الثبات أبداً أمام الاستبداد الممنهج والمتجذر، الذي لا يرى حلاً لأي أزمة إلا بالعنف، والذي لا يجد في تاريخه إلا ما يدعوه إلى عنف أشد. هذا هو حال سورية اليوم: عنف النظام يقابله عنف الثائرين الذي تدرّج في نشوئه وتطوره على وقع عنف النظام. فبعد شهور مريرة من مراوحة نظام الأسد في التعامل مع الثائرين عليه بين العنف المقنن والعنف الفالت من كل عقال، رجحت كفة الخيار الأخير. فالنظام الأسدي الذي تعود على احتكار العنف فاجأته وأوجعته ضربات المقاومة المسلحة التي ما تعود على مواجهتها من شعب سكت على الضيم لأربعة عقود. فأزاح عن كاهله ما كان قد حافظ عليه من مسؤوليات الحكم وطرح كل ادعاء ببمارسة ضبط النفس وابتدأ بالاستخدام المفرط للمدفعية والطيران ضد المراكز السكانية وللإعدامات الميدانية ضد كل من يشتبه به من الأفراد من دون تمييز بين حامل للسلاح ضده وبين سكان بائسين شاءت لهم الأقدار التواجد في مكان انتشار شبيحته. صار العنف هدفاً للنظام بدلاً من كونه وسيلة. وضاعت في خضم القتل هذا كل خيارات السجال الأخرى التي كان يمكن التفكير بها لحل الوضع في سورية حلاً سلمياً أو شبه سلمي، مثل التحاور مع المعارضة المناوئة تحت مظلة أممية أو القبول بتنازل تدريجي عن الحكم أو بمشاركة حقيقية لقوى جديدة من خارجه. لكن المعضلة المحيرة في استخدام النظام لهذا العنف المفرط والعشوائي، بخاصة خلال أشهر هذا الصيف الدموي الذي قارب على الانصرام، هي في محاولة استشراف غاياته النهائية التي لا تبدو منطقية البتة كيفما حاول المرء تأويلها. فمن الصعب مثلاً الافتراض بأن النظام يسعى إلى إقناع الطرف الآخر المقاتل أو المعارض أو المحتج سلمياً، أو حتى إقناع مؤيديه أنفسهم، بصلاحيته في الاستمرار بحكم البلد أو بأحقيته به في المقام الأول. بل من الصعب حتى الاستنتاج بأن النظام ما زال يتمسك بفكرة وحدة الأرض السورية والشعب السوري، حتى إذا سلمنا بأنه قد طرح من خياراته فكرة الأهلية أو الأحقية بالحكم. فاستخدام العنف بالطريقة الانتقائية والاقتلاعية التي تركز على مناطق التواجد السنّي الكثيف، خصوصاً في المحافظات الزراعية الفقيرة كدرعا وإدلب وحماة ودير الزور، يوحي بأن النظام لم يعد يهتم البتة فيما لو كان هؤلاء السوريون سيبقون جزءاً من بلده نفسه عندما ينتهي العنف. بل إن تركيز النظام على تجييش المشاعر الطائفية بين مؤيديه ومناوئيه على السواء، وهو ما بدأت به الناطقة الأولى باسمه في ربيع 2011، واستخدامه لشبيحة علويين مرتزقة في أغلب الأحوال في أقذر مهمات التصفية والتدمير والاغتصاب لا توحي إطلاقاً بأن النظام مهتم بدوام أي لحمة وطنية في سورية. لا يقتصر الأمر على الاستنتاج بأن النظام غير مكترث البتة بما سيحصل لسورية بعد رحيله، فالتصرفات العبثية والاستهتار الشديد بتبعات الحل الدموي تضعف من إمكانية إعادة تكوين الوطن السوري حتى لو بقي النظام في الحكم. فنحن قد أصبحنا في وضع لا يمكننا حقاً تخيل سورية، كاملة أو مجتزأة، سواء بقيت تحت حكم آل الأسد أم لا في مستقبل الأيام. فقد تزايدت الضغينة وزالت كل ملامح العيش المشترك في الكثير من مدن وبلدات سورية بحيث إن العصبيات الجريحة التي نفخ عنف النظام فيها الروح لن تهدأ وتكف عن رفض الآخر بل وربما قتله، حتى ولو هزمت عسكرياً. ولا يمكننا فعلاً الركون إلى فكرة تقسيم سورية إلى دويلتين، علوية وغير علوية، أو أكثر، للخروج من هذا المأزق الوجودي. فالناس في سورية، بخاصة في المدن كلها ولكن أيضاً في ريف بعض المحافظات الثائرة مثل حمص وحماة واللاذقية، متداخلون عرقياً ومذهبياً وإن كانوا أحياناً يعيشون في مجموعات منفصلة، مما يجعل عملية فرزهم وفصلهم مستحيلة. وقد تجاوز العالم فكرة التطهير العرقي كحل لصراعات أهلية في دول فاشلة كما ثبت من النتيجة الخائبة لحل صراع البوسنة التي خلقت شبه دولة ودويلة قزمة جنباً إلى جنب تفتقران إلى أي من مقومات الوجود المستقل، مما سيكونه الوضع في حال طبقت فكرة التقسيم في سورية. صار لزاماً علينا اليوم، كسوريين وكمحبين حقيقيين لسورية، أن ندرك أن المقولة التي تنسب الى أكثر مؤيدي النظام دموية وشراسة، «الأسد أو لا أحد»، قد تحولت في ظل العنف المستشري إلى «لا أحد أو لا أحد». وصار لزاماً علينا الإصرار على وقف العنف وقفاً تاماً بأي وسيلة بغض النظر عن الرابح والخاسر كمقدمة أساسية للحل لأن الخاسر الأكبر في ظل استمرار العنف هو سورية الوطن بعدما خسرنا سورية المواطنة قبل خمسة عقود. * عضو في الحركة السورية المدنية