حينما حقق ستانلي كوبريك، المخرج الأميركي الكبير الذي كان يعيش منفياً في بريطانيا ومات فيها، فيلمه الأخير «عيون مغلقة على اتساعها»، أعلن منذ البداية ان الفيلم سيكون مقتبساً عن قصة للكاتب النمسوي آرثر شنيتزلر. ويومها تبين لكثر انهم لم يسمعوا سابقاً بهذا الاسم، او انهم سمعوا به في شكل غامض الى حد ما. وحين قرئ عمل هذا الكاتب، يومها، على نطاق واسع، سأل كثر أيضاً، لماذا لم يسبق للسينما ان نهلت من أعماله، هو الذي تتميز أعماله، مسرحية أم روائية كانت، ببعد بصري يعطي السينما مجالاً كبيراً للتعامل معه. طبعاً سيعرف السائلون بعد ذلك ان كوبريك لم يكن أول من اقتبس عملاً لشنيتزلر، بل إن أعمالاً عدة له كان سبق للسينما أن دنت منها، بما في ذلك روايته «الدائرة». بل سيعرف كثر ايضاً، أن واحداً من أول الأفلام الألمانية الناطقة من اخراج ماكس أوفولس، كان مقتبساً عن واحدة من أشهر قصص شنيتزلر وعنوانها «ليبيلي» (الحبيبة)، كما ان اوفولس نفسه، سيحقق في فرنسا، في العام 1950 فيلم «الدائرة» وأيضاً عن عمل لشنيتزلر. بل ان انكباب اوفولس منذ ثلاثينات القرن الفائت على الاهتمام بأدب شنيتزلر، وفّر لهذا الأخير شعبية لا بأس بها، أفادت منها أعمال أخرى له، حتى وإن كانت السينما قد نسيته لاحقاً، حتى أولع كوبريك بواحدة من قصصه وأفلمها. ونعود هنا الى «الحبيبة»، الذي كان في العام 1933 آخر فيلم يحققه ماكس أوفولس في وطنه المانيا قبل أن يضطر الى سلوك درب المنفى إثر الصعود المدوّي للنازيين. وإذا كان اوفولس توجّه يومها من فوره الى فرنسا، فإنه لاحقاً وطوال أكثر من عقدين، سيواصل سلوك درب المنافي فيحقق بقية أفلامه في روما حيناً وفي فرنسا أحياناً وفي الولايات الأميركية المتحدة بينهما، وغالباً انطلاقاً من أعمال أدبية (لغوته ولويز دي فيلمورين) أو من أحداث تاريخية كبرى (مأساة مايرلنغ مثلاً...). ومع هذا سيبقى «الحبيبة» من أشهر أفلامه وأفضلها، الى جانب «الدائرة» وفيلمه الأخير «لولا مونتيس» (1955). للوهلة الأولى، قد يبدو «الحبيبة» فيلماً ميلودرامياً، متسارع الأحداث. غير ان اللافت في هذا الفيلم هو أن أحداثه انما هي ذريعة حقيقية لرسم ملامح طبقة معينة من طبقات المجتمع. إذ سار اوفولس، وحرفياً تقريباً، على خطى شنيتزلر الذي كان في هذا العمل يستقي إلهامه، وللمرة الأولى، من حياة البورجوازية الصغيرة في مدينة فيينا خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وشنيتزلر في الأصل كان، بعد أن وضع الحكاية على شكل قصة متوسطة الطول، حوّلها الى مسرحية قدمت للمرة الأولى في العام 1895... ومنذ تقديمها عوملت المسرحية بصفتها أوفى صورة رسمت حتى ذلك الحين عن حياة تلك البورجوازية الصغيرة وأخلاقها. أما الموضوع، في الفيلم، كما في القصة وفي المسرحية مع بعض التعديلات الطفيفة - حيث ان الفيلم نقل الأحداث الى العام الأخير من القرن التاسع عشر -، فيتمحور حول كريستين فايرنغ، الابنة الحسناء لعازف كمان في أوبرا فيينا والتي يحدث لها ذات مساء أن تقبل دعوة عشاء ترافق فيها صديقتها ميتزي شلاجر، وملازمين من الحرس الامبراطوري النمسوي. وخلال ذلك العشاء، تخوض ميتزي ذات المزاج الصاخب، غزلاً واضحاً مع الملازم ثيو، فيما يقوم الملازم الآخر فريتز بإحاطة كريستين بكل رعايته، إذ استأثر باهتمامه مقدار لطفها وهدوئها وسحر شخصيتها. وكما كان يمكن أن يتوقع تبدأ حكاية غرام حقيقية بين كريستين وفريتز. وكاد كل شيء هنا يسير بشكله الطبيعي لولا ان ماضي فريتز يكون له بالمرصاد. فهو كان قبل فترة على علاقة بزوجة رجل عرف ببأسه وغيرته. وإذ يكتشف الزوج، تلك العلاقة من خلال عثوره على رسائل متبادلة بين فريتز وزوجته، يستبد به الغضب ويتصدى للعاشق داعياً اياه الى المبارزة، صوناً لشرفه. ذلك ان قواعد اللعبة المعهودة كانت تقضي بأن على واحد منهما أن يموت. ويقبل فريتز، لتمسكه بمواثيق الشرف الاجتماعية، أن يخوض المبارزة مع الزوج، وتنتهي تلك المبارزة بمقتل فريتز. وبعد ذلك بأيام قليلة يتوجه ثيو، الى منزل كريستين وهو متشح بالسواد لكي ينقل اليها النبأ الصاعق. والحقيقة ان النبأ يحطم قلبها وفي اتجاهين في الوقت نفسه: اتجاه فقدانها لفريتز الذي كانت أحبته حقاً، ولا يمكنها تقبل فكرة مقتله بهذه السهولة، واتجاه ادراكها اذ عرفت الدافع لمقتله والسبب الكامن وراء المبارزة، انها في الحقيقة لم تكن بالنسبة اليه سوى مغامرة عاطفية أخرى... معشوقة بديلة، مع انها هي أحبته من كل فؤادها واعتبرته حبها الأول والوحيد. وهكذا، إذ جرحت في حبها وفي كرامتها، ينتهي الفيلم عليها إذ ترمي نفسها من النافذة... أما في الرواية فإنها تركض لترمي نفسها فوق قبر فريتز، في الوقت الذي يدرك فيه أبوها أنها مائتة لا محالة ولن تعود اليه أبداً. في الحقيقة ان ماكس اوفولس، حين أقدم على تحويل العمل الى فيلم سينمائي، كان يعرف انه انما يقدم عملاً كان من النادر للسينما أن دنت منه، ليس في مجال ميلودراميته أو كونه قصة غرام وخيبة، بل في مجال قدرته على رسم الصورة الطبقية لشخصياته في كل وضوح... لكنه كان يعرف أيضاً أنه لا يجازف كثيراً، إذ ان مسرحية شنيتزلر كانت ذات شعبية كبيرة، في ذلك الحين، في طول أوروبا وعرضها. وكان الجمهور يدرك حقاً دقة شنيتزلر في رسم هذه الشخصيات ونمط العلاقات في ما بينها، هو الذي كان مهتماً بتصوير التناقضات الماثلة بين لا مبالاة شبيبة تلك الأزمان وإقدامها على خوض حياة لاهية لا تنظر الى المستقبل بأي خوف، أو اهتمام حتى، وبين صرامة الأعراف الاجتماعية، ممثلة هنا بجمود قواعد السلوك العسكري - والطبقي بالتالي -. ولعل التجديد الأساسي الذي قام به أوفولس هنا هو تركيزه على النقد الاجتماعي، ولكن لمصلحة انبعاثة رومنطيقية ما... وذلك عبر ادخاله في العمل قسطاً من حنين الى الماضي كان غالباً ما يميّز أعمال سنواته الأولى. وقد تمثل هذا في «الحبيبة» في حركة الكاميرا المنطلقة والمتحررة (ضمن حدود ما كانت تقنيات السينما تسمح به في ذلك الحين) التي راحت ترافق الحبيبين خلال علاقتهما القصيرة وكأنها جزء من طبيعة حنون تحنو عليهما. وبخاصة خلال مشهد الترعة فوق المزلاج وسط الغابة المكسوة بالثلوج. حتى من قبل عرضه، كان متوقعاً لهذا الفيلم أن يحدث تجديداً في سينما ألمانية كانت شديدة الجدية في ذلك الحين. لكن وصول النازية الى الحكم واعتبار كل رومنطيقية غير قومية نوعاً من الانحطاط الابداعي، اجهض المشروع، فتضافر معه هروب أوفولس، النمسوي الهوى والألماني الثقافة، الى بداية منافيه ليجعل من «الحبيبة» جوهرة نادرة في مسار تلك السينما الألمانية. أما اوفولس نفسه فإنه، كما أشرنا، جرب حظه أول ما جرب في فرنسا حيث حقق فيلم «لقد سرقوا رجلاً» (1934) ثم توجه الى روما، ثم الى هولندا محققاً بين البلدين بعض أفلامه الكبرى. وفي العام 1947، كان دور منفاه الأميركي، حيث حقق خلال عامين فيلمين أشهرهما «رسائل من امرأة مجهولة» عن رواية ستيفان زفايغ. وهو عاد في العام 1950 الى فرنسا ليحقق فيها أفلامها الأخيرة - والتي ستبقى الأشهر بين أفلامه كلها - ومنها «الدائرة» و «لولا مونتيس» ولكن أيضاً فيلم «اللذة» الذي أثار حين عرضه عواصف كثيرة لم تهدأ، حتى بعد توقف اوفولس عن العمل ثم موته في العام 1957 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين. [email protected]