«الموضة» السائدة الآن في التلفزة، ولا سيما التجارية الترفيهية منها، هي ذلك الشريط الرفيع الذي يمر عبر الصور في أسفلها حاملاً رسائل مختصرة من متفرجين يوجهونها إما الى بعضهم البعض او الى المحطات نفسها او الى نجومهم المفضلين، حاملة العبارات الولهة والغرامية او الشكوى او أي شيء من هذا القبيل. ومن الواضح اليوم ان هذه الرسائل التي تبثها المحطات لدوافع تجارية ويكتبها المتفرجون لدوافع عاطفية غالباً، هي الوريث الشرعي لما كان يسمى في المجلات والصحف الشعبية «بريد القلوب». وهذا البريد، حتى وإن كان درس سوسيولوجيا في احيان كثيرة، كان النخبويون ولا يزالون ينظرون اليه بشيء من السخرية والاحتقار، لأنه غالباً ما يبدو ساذجاً، سخيفاً. واذا كان ثمة نقاد كثر له، منذ زمن، فإن السينمائي الالماني الاصل، الفرنسي المسار، ماكس اوفولس، كان من أبكر الذين وجهوا اليه انتقادات جذرية، حتى من دون ان يدرك الآخرون عمق تلك الانتقادات... ما أوجد حال سوء فهم مع آخر فيلم حققه، «لولا مونتيس» الذي شاء منه اصلاً، ان يحمل جانباً من تلك الانتقادات، فوصفه كثر من النقاد بأنه فيلم ينتمي الى... بريد القلوب. «كان ذلك في العام 1955، حين كان ماكس اوفولس، في ذلك الفيلم (الذي كان الأخير من بين افلامه، ومات بعد شهور قليلة من عرضه وفشله، الذي عجّل في موته وحزنه، خصوصاً ان الفيلم اعتبر منذ ذلك الحين فيلماً ملعوناً عمدت الشركة المنتجة له، الى اعادة توليفه في شكل حطم كل اسلوب المخرج الذي كان، في ذلك الحين، مريضاً يحتضر) يريد توجيه اول ضربة من نوعها لشعبية «الميديا» المحطمة لكل فن حقيقي والمسخّفة لكل موقف انساني. طبعاً لم يكن هذا كل ما حمله فيلم «لولا مونتيس» لكنه كان عنصراً اساسياً فيه، وربما مبرره ايضاً، كما سنرى. لقد اخفق الفيلم في تحقيق أي نجاح جماهيري... لكن كبار النقاد هاجموه، في حينه كذلك - اذ اساؤوا فهمه - ليقولوا لاحقاً انه انما أتى سابقاً على زمنه ليعودوا ويضعوه بين قمم السينما الكلاسيكية الفرنسية. بل ان الفيلم الذي هوجم، اولاً، من جانب الجمعيات النسائية، سيعود ويعتبر فيلماً مناصراً للمرأة... اذ هنا ايضاً أسيء فهمه اول الامر. فما هو هذا الفيلم الحافل بكل انواع سوء التفاهم، والذي اجتمع يوم عرضه الجمهور والنقاد لتحطيمه؟ في الدرجة الاولى هو فيلم عن تحكّم الجمهور بالقيم والافكار حارفاً اياها عن حقيقتها. وبعد ذلك هو فيلم عن المرأة... عن الاقنعة العديدة التي تضطر المرأة الى وضعها على وجهها، ان كانت ترغب في ان تعيش حياتها ككائن بشري، وليس كشخص تابع. وهو - أي الفيلم - يقول لنا ذلك، من خلال حكاية امرأة معينة، هي - تحديداً - لولا مونتيس، التي نشاهدها، عند بداية الفيلم، عاملة في سيرك... لكنها لا تمارس في هذا السيرك اية لعبة او فنّاً، بل تعرض نفسها في شكل فضائحي، وتعرض روحها امام اضطرارها - مهنياً - للاجابة عن كل الأسئلة التي يطرحها عليها جمهور المتفرجين... وهي اسئلة يمكننا - طبعاً - ان نتصور مدى سخافتها ورغبة اصحابها التلصصية في التوغل الى حياة هذه المرأة الخاصة، كتعبير عما ابتدعته الصحافة الصفراء الشعبية عن تحقيق الربح من طريق التسلل الى الحياة الخاصة للناس. غير ان لولا، في وقفتها الذليلة تلك، وقد شارفت الآن على سن الكهولة... ولا يزال مطلوباً منها ان تفضح حياتها وان تعري وجودها، جسدياً ومعنوياً على مذبح الرغبات الدنيئة للجمهور، تعرف كيف تتماسك، لتروي حكاية حياتها، بأناقة وألم واطمئنان الى الذات تتجاوز فيها، كل ما هو مطلوب منها، لترسم صورة اخرى غير تلك المتوقعة. ما لدينا في «لولا مونتيس» اذاً، هو حكاية هذه المرأة، ترويها بنفسها، مدركة انها ترويها اصلاً امام عيون وآذان تتلصص عليها وعلى حميميتها... ولكن هل يهمها هذا حقاً؟ هل يهم هذا مخرج الفيلم ماكس اوفولوس؟ على الاطلاق... لأن «لولا» ومخرجها من ورائها يعرفان ان ما يروى هنا، يتجاوز اطاره المكاني (السيرك) بل اطاره الحدثي والزماني (مسار حياة لولا مونتيس نفسها) ليقدم صورة لامرأة. وهي امرأة استثنائية، تكاد في استثنائيتها تختصر حكاية المرأة عبر التاريخ: فلولا الآن، النجمة الهاوية التي تقف لتواجه الجمهور، تمثل بالحركة والصوت ما كانت عليه حياتها، وهو تمثيل يشاركها فيه افراد السيرك جميعاً، مثل كورس في مسرح اغريقي عريق. ومنذ البداية علينا ان ندرك ان لولا التي امامنا الآن امرأة منهكة، شديدة الهشاشة. وهي اذ تبدأ بالتذكر هنا فإنها تتذكر آخر عشاقها: الموسيقي فرانز ليست الذي جاءها في خريف حياتها... ولكن قبل ذلك كانت هناك ولادتها وصباها العاصف ووصولها الى باريس، ثم اول زواج مخفق لها... وهي اثر ذلك الزواج اعتقدت انها ذات موهبة خاصة في فن الرقص، فامتهنت هذا الفن لتبدأ به صعوداً سريعاً في المجتمع قادها من حياة الى اخرى ومن مدينة الى مدينة، ومن عشيق الى آخر... وهكذا رحنا نراها في الوقت نفسه تنتقل من حياة الى اخرى، ولكن ايضاً من فضيحة الى اخرى، لندرك بعد قليل ان جزءاً كبيراً من تلك الفضائح كان مفبركاً ومخططاً بعناية، بمساعدة الصحافة الفضائحية، من اجل ايجاد شهرتها ومكانتها، كما يحدث دائماً مع النجوم. والحقيقة ان «الخطة» اسفرت دائماً عن نجاح. وان المناخ الفضائحي «الاعلامي» الذي احاط بلولا وبحياتها، اوصلها في نهاية الامر الى بافاريا، حيث كان في انتظارها تاج الملكية، اذ اغرم بها هناك ملك مريض يعيش آخر ايامه. وهذا الملك احبها حقاً وجعل منها نبيلة مغدقاً عليها لقب كونتيس لانسفيلد... بانياً من اجلها قصراً ضخماً، محيطاً اياها بحب وحنان حقيقيين. ولقد كان في وسع لولا مونتيس (على غرار ما حدث لغريس كيلي في الزمن نفسه الذي صور فيه الفيلم، اذ احبها واقترن بها أمير موناكو رينييه، فتخلت عن الفن في سبيل التاج) كان في وسع لولا ان تركن الى تلك الحياة النبيلة الجديدة... ولكن الاوان كان قد فات في ذلك الحين، ذلك ان الملك ازداد ضعفاً، مع ازدياد حبه لها، واندلعت في بافاريا تلك الثورة الشعبية العارمة التي اجبرت لولا مونتيس على الفرار وقد خسرت كل شيء. وهي عندما فرت كانت قد اصبحت غير لولا الجميلة الاولى التي كانت قبلة الانظار. لذلك، بدلاً من ان تجد حياة ثرية وصاخبة في انتظارها، لم تجد سوى السيرك يستقبلها، فرضيت بمصيرها الجديد، جاعلة من حكاية حياتها نفسها مادة ل «النمرة» التي تؤديها في ذلك السيرك. وقد ادركت ان هذه النهاية مكتوبة عليها. وان هذا السيرك ليس سوى قبرها النهائي، وان هذا الجمهور ليس سوى حفار قبرها. لقد قالها ماكس اوفولس، الذي اقتبس فيلمه عن فكرة للكاتب الفرنسي سيسيل دي سان لوران، بكل وضوح: قال ان اساس فيلمه هو الاسئلة التي يطرحها جمهور السيرك على لولا و «انا استوحيت هذه الاسئلة من البرامج الاذاعية التي كان الجمهور يشارك فيها بطريقة شديدة الفضائحية... وانني لأجد الشر كل الشر في هذه النزعة الجماهيرية الى معرفة كل شيء عن الناس، بما في ذلك اسرار وجودهم وحياتهم الخاصة». من هنا يبدو الفيلم اشبه بتصفية حساب اخيرة قام بها مخرج، لم يتوقف عن حب السينما، منذ كان فتى مبدعاً في المانيا، التي ولد فيها في العام 1902 (ليموت لاحقاً فيها ايضاً في العام 1957). غير ان اوفولس لم يبدأ عمله السينمائي الحقيقي، (في المانيا اولاً ثم في فيينا وبعدها في الولاياتالمتحدة)، قبل ان يعود الى فرنسا ويمضي فيها عقود حياته الاخيرة محققاً ابرز الافلام التي صنعت له شهرته الكبيرة، والتي جعلته يعتبر المعادل السينمائي لستيفان تسفايغ في الادب (هو الذي اقتبس من تسفايغ ومن غيره من كتاب المانيا والنمسا بدايات القرن العشرين) بعض افضل افلامه مثل «رسالة من امرأة مجهولة» (الولاياتالمتحدة 1948) و «اللذة» (1952) و «الحلقة» (1950) وخصوصاً «امرأة فلان...» (1953). [email protected]