هل أصبح التعليم في لبنان حكراً على أبناء الميسورين؟ سؤال بات يُطرَح بجدّية بين الأهالي مع التحضيرات لالتحاق الطلّاب بمدارسهم مع ما يترّتب على ذلك من كلفة باهظة تزيد سنة بعد أخرى. فاللبنانيون لا يحتاجون هذا الخريف الى مؤشرات الغلاء ليعرفوا الوضع الماليّ الصعب الذي يمرّون فيه، لأنّ كلّ ما يحتاجون إليه ارتفع ثمنه، وتحديداً بالنسبة الى طلاب المدارس الخاصة الذين يشكّلون نسبة 59.6 في المئة من مجموع الطلّاب في لبنان. وإذا كانت الاحتجاجات في السنوات الماضية تتركّز على الأقساط المتزايدة في شكل أساسيّ، فقد أضيفت هموم على هذه الأزمة تتمثّل بالاسعار الخيالية لبعض الكتب المستوردة من الخارج وثمن القرطاسية الذي يتجاوز ال 400 دولار أميركيّ في بعض المدارس، ولا يلبث أن يهون أمام الزيادة المرتفعة على كلفة التنقّلات بالباصات المدرسية، وقد تخطّت 250 دولاراً شهريّاً بسبب ارتفاع أسعار المحروقات. 17 زيادة وأكثر القضية الرئيسة التي تضع الأهالي أمام امتحان ماليّ خطير هي الزيادات المستمرة في الأقساط المدرسية. فمنذ عام 1998 تمّ رفع هذه الأقساط في المدارس الخاصة 17 مرّة وفق رئيس هيئة التنسيق النقابية حنّا غريب، إلا أنّ كلّ هذه الزيادات لم تطل رواتب الأساتذة، ما يثير الكثير من التساؤلات حول الأرباح العالية التي تجنيها المدارس من دون أن يستفيد منها الطاقم التعليميّ. وفي هذا السياق، تبرز «فضيحة» كبيرة تتمثّل بطلب الكثير من المدارس زيادة مالية من الأهالي في نهاية السنة الفائتة في شكل استباقي لإقرار الحكومة اللبنانية سلسلة الرتب والرواتب التي تشمل الأساتذة، وقد وصلت الزيادة الى 500 ألف ليرة لبنانية، أي حوالى 332 دولاراً أميركياً. وبما أنّ السلسلة تمّ إقرارها في مجلس الوزراء يوم 6 أيلول (سبتمبر) الجاري، فالباب أصبح مفتوحاً على كل الاحتمالات من ناحية الزيادات الإضافية على الأقساط. وفي بداية هذا الشهر، توجّه أولياء الطلّاب الى إدارات المدارس الخاصة ليسمعوا إجابات غامضة حول الأقساط المقبلة. لورا، أمّ لثلاثة أطفال يتعلّمون في مدرسة دينية خاصة، حاولت مناقشة المدير حول الدفعات المقبلة لتدرك وضعها الماليّ. لكنّ الجواب الوحيد الذي سمعته هو «كلّ شيء ممكن، وإذا لم يكن هناك زيادة في القسط الأول فذلك لا يشمل الأقساط التالية». وأكد مدير مدرسة خاصة، رفض الكشف عن إسمه، أنّ من حقّ أي مدرسة زيادة الأقساط كلّ عام بنسبة 10 في المئة من دون العودة حتّى الى لجنة الأهل، لافتاً إلى أنّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب يمكن أن يؤدي الى ارتفاع الزيادة من دون تحديد سقفها. ... الى المكتبات بعد دفع الأهالي الرسوم المترّتبة على تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة، يتمّ إعطاؤهم لائحة الكتب المطلوبة، وعندها تبدأ المعاناة المالية الحقيقية. فثمن كتاب واحد يمكن أن يصل الى ستين دولاراً أميركيّاً، لأنّه مستورد ولأنّ المدرسة تحاول مواكبة الاتجاهات الحديثة في التعليم. وحين نسأل المسؤول التنفيذيّ عن إحدى المكتبات الكبرى في لبنان روجيه فرح عن الأسباب التي تؤدي الى ارتفاع أسعار الكتب في شكل مستمر، يجيب بأنّ الثمن مرتبط بالعملات الأجنبية، أي الدولار واليورو وحتّى الجنيه الإسترليني. لكنّ القضية تتجاوز موضوع العملات بالنسبة الى الأهالي، فكلّ ما يطلبونه هو أن يتمّ الحفاظ على الكتب نفسها من سنة الى أخرى لكي يستطيعوا شراء الكتب المستعملة بأسعار أقلّ. إلا أنّ هذا الطلب يبدو صعب المنال، لأنّ مدارس خاصة كثيرة تُغيّر سنويّاً كتبها تحت شعار متابعة التطوّرات في مجال التعليم... ما يعني أنّ الأهل يشترون الكتاب بسعر عالٍ، وعند نهاية العام لا يمكن أن يستفيدوا منه عبر بيعه مجدداً. ويُضاف الى كلّ ذلك الضريبة على القيمة المُضافة التي تفرضها الدولة على الكتب المدرسية. «الاستنزاف» الماليّ لا يقف عند هذه النقطة، ويطاول أيضاً شراء المستلزمات المدرسية كالحقائب والدفاتر والأقلام التي لا تدخل ضمن القرطاسية التي تحدّد سعرها المدرسة. وبما أنّ عصر الاستهلاك يطاول مختلف جوانب الحياة في لبنان، فالأهل يجدون أنفسهم في محنة أمام طلبات أولادهم لاقتناء مجموعات معيّنة من المستلزمات المدرسية مثل تلك العائدة الى نجمة الغناء الأميركية «هانا مونتانا» أو تلك الخاصة ب «هيلو كيتي». وهذه المجموعات غالباً ما يكون ثمنها أعلى من المستلزمات العادية. موقع المدارس الرسمية والمجانية وسط كلّ هذا الجدل حول التكلفة الباهظة للتعليم الخاص في لبنان، تلتفت الأنظار الى المدارس الرسمية التي يصل عددها الى 1361، اذ يلاحظ اقبال كثيف على التسجيل فيها، خصوصاً في الصفوف الثانوية. وأكد أولياء الأمور حاجتهم الى التعليم الرسميّ لئلا يتسّرب أولادهم من المدرسة جراء التكاليف العالية التي تتجاوز الإمكانات المالية للأسر الفقيرة والمتوسطة. لكنّ ذلك لا يخفي وجود الكثير من المشاكل التي تدفع آلاف الطلّاب الى الابتعاد عن المدرسة الرسمية ومن أهمّها المناقلات غير المدروسة للأساتذة وسط العام الدراسيّ، وساعات الفراغ الكثيرة التي يعاني منها الطلّاب بسبب تغيّب الأساتذة أو إضرابات المعلّمين المتكرّرة. ويشدّد سامر، أب لولدين، على أنّ المدرسة الرسمية لا تؤمّن لأولاده النشاطات التطبيقية والإجرائية، خصوصاً في مجال التكنولوجيا والتطوّر التقنيّ. يُضاف الى ذلك واقع المباني الخاصة بالمدارس الرسمية في مختلف المناطق اللبنانية، إذ يشكو عدد منها من الاهتراء، ما يعرّضها لخطر السقوط في أي لحظة، وهذا ما حدث مرّات عدّة خلال العامين الماضيين. وهو واقع يصعب تغييره حالياً بما أنّ صناديق المدارس الرسمية شبه فارغة، ما يعني أنّها عاجزة عن سدّ حاجاتها الأساسية والضرورية. أمّا المدارس المجانية فوضعها يزيد صعوبة عاماً تلو الآخر، وذلك بسبب تأخر السلطات الرسمية في دفع مستحقاتها، ما يؤدي الى عجز متراكم في موازناتها، ويضع المدارس المجانية في حال من اللاإستقرار تخيف الاهل وتدفعهم الى استبعاد هذا الخيار. هكذا يبقى السؤال الرئيس الذي يدور في أذهان الأهالي كما في بداية كلّ عام دراسيّ هو نفسه: إلى متى يبقى التعليم المجانيّ ذو المستوى الرفيع مشروعاً مؤجلاً في لبنان؟