الذين قدموا فيلم «براءة المسلمين» إلى العالم هذه الأيام لم يتوقعوا أن يصيب هذا الكم من الأهداف ب «عرض» واحد متزامن على كل شاشات الشرق الأوسط! ربما لم يطمحوا إلى كل هذه التداعيات. سلسلة من المشاهد تتزاحم في المخيلة لا يقدمها المنتجون والممثلون والمروجون. تستدعيها الأسئلة عن «براءة» هؤلاء! التوقيت أولاً. في دول «الربيع العربي» قوى إسلامية صاعدة تتلمس طريقها إلى الحكم في تعقيدات وظروف سياسية واقتصادية وأمنية صعبة ومعقدة خلفتها أنظمة ديكتاتورية غيبت السياسة لعقود واكتفت باستحضار العنف أداة وحيدة للحكم، وخلفتها معطيات وعلاقات دولية ساهمت في قهر الناس وكبتهم وتجاهلهم. جاء الفيلم ليدفع بهذه القوى إلى صراعات جانبية لا طائل منها سوى ضرب هذه الثورات وأهلها، وتشويه صورتها وصورة الإسلام الذي يحمل مشروعاً ورؤيةً لقيادة دولها ومجتمعاتها. في توقيت هذا الفيلم البغيض أيضاً: في لبنان يطل البابا على جموع من كل الطوائف والمذاهب تمثل هذا التنوع في الإقليم كله. الرموز الدينية والسياسية التي كانت في استقباله تختصر كل عناصر الصراع في هذا الإقليم المضطرب. استمعت إلى رسالة السلام الذي حمل، والدعوة إلى العيش المشترك في تنوع فريد. في مشهد آخر جموع متطرفة تتسابق على مهاجمة مقار وبعثات أميركية وغربية. تريد القطع بين حضارات وشعوب وثقافات. بل الحرب المفتوحة بين عالمين. مفارقة مؤلمة أن تواجه زيارة البابا الشرق بمثل هذه الموجة من الغضب في وجه «الغرب المسيحي»! أطاحت الأحداث الجارية كل المعاني التي تحملها الزيارة، وكل التطمينات التي تحملها للأقليات المسيحية وغير المسيحية في المنطقة العربية، من أقباط مصر إلى مسيحيي سورية ولبنان والعراق. في التوقيت أيضاً: في الولاياتالمتحدة صراع مفتوح في معركة الانتخابات الرئاسية. والموقف من الشرق الأوسط بقضيته الفلسطينية و «ربيعه العربي» وملف إيران النووي أحد عناوين هذا الصراع بين الجمهوريين والديموقراطيين. وما رفع وتيرة المعركة انخراط بنيامين نتانياهو في السجال الأميركي الداخلي على نحو سافر وغير مسبوق. والهدف رأس... باراك أوباما الذي لم يخف دعمه «الربيع العربي» وأهله. ولم يخف معارضته الحرب على إيران... فيما يعد العدة للخروج من أفغانستان بعد الانسحاب من العراق. ولعل أخطر ما يرمي إليه هذا الفيلم البذيء، إلى كل هذه الأهداف، استنهاض المتشددين شرقاً وغرباً، هؤلاء الذين لا يرون إمكان التعايش بين المسلمين عموماً والغرب. كأن ثمة إصراراً على العودة إلى إشعال صراع الثقافات الذي أطلقته اعتداءات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. وغذته «الحرب على الإرهاب» وعلى أفغانستان والعراق، ومواجهات هنا وهناك من اليمن إلى باكستان. وقد جاء الفيلم ليعيد بعث ما خلفته تلك الأحداث سواء في أميركا والغرب عموماً وفي العالم العربي والإسلامي. فهل يحتاج القائمون على هذا العمل المسيء إلى صك «براءة»؟ ولكن، بعيداً من هذا الجانب المتعلق بالتوقيت والمرامي الخبيثة. تطرح التداعيات التي خلفها الفيلم في الساحات العربية تحدياً على نخب الإسلام السياسي الصاعد في دول «الربيع العربي». قد يكون من المبكر توقع انفجار الصراع بينها وبين القوى السلفية المتفرقة المشارب والميول وحتى الأجندات. لكن المواجهة آتية حتماً، كلما كان على هذه النخب أن تحكم بما يستجيب لمطالب الناس في العيش والوظيفة والطبابة والتعليم، وبما يستجيب أيضاً لأحكام العلاقات الدولية وشروطها للحصول على ما يعين على تلبية مطالب الناس. لعل ما يريده السلفيون إثباته باحتلالهم المشهد السياسي في بلدان «الربيع العربي» هو أنهم القوة المحركة للشارع. أفادوا في ظل الأنظمة البائدة من تشجيع أجهزة الأمن من أجل تفتيت حركات الإسلام السياسي وعلى رأسهم «الإخوان». وهم يفيدون اليوم من مساحة الحرية التي وفرتها الثورات. ويرفعون التحدي في وجه قوى لا تزال تتلمس طريقها إلى الحكم، وتقدم نفسها بديلاً ناضجاً ومنظماً ويحمل برنامجاً «إسلامياً» للحكم، في تونس ومصر وليبيا وغيرها. إذ تجد هذه نفسها في موقع ابتزاز. فإما أن تجاري هؤلاء المتشددين وتماشيهم وإما أن ينتهي الأمر بصدام لا بد منه. تماماً كما حصل مع حركة «حماس» في غزة حيث وجدت نفسها في موقع السلطة التي تتطلب أساليب مختلفة للتعامل مع الخارج علاقات ومصالحَ، ومع الداخل ومشاكله الاقتصادية والاجتماعية وما شابه. فانتهت إلى حيث كانت تقف السلطة الفلسطينية التي انتفضت عليها. ووجدت نفسها أمام خيار لا بديل منه: مطاردة كل القوى السلفية والمتشددة على اختلاف تسمياتها. وتطرح التداعيات التي خلفها الفيلم تحديات مماثلة أمام الولاياتالمتحدة يفترض أن تدفعها إلى إعادة صوغ رؤيتها وسياستها حيال الشرق الأوسط بالتحديد. كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تحاول مواكبة المتغيرات في المنطقة للتكيف معها. كانت ولا تزال تتحرك بحذر شديد في توفير الدعم للنخب الصاعدة على كرسي الحكم في عدد من بلدان «الربيع العربي»... قد يضحك فلاديمير بوتين في سره، ومثله الرئيس بشار الأسد. هذا الفيلم أشعل «البساط الإسلامي» الذي يعتقدان بأنه من «صنع أميركا»، وها هو يحرق أصابعها. وقد يضحك معهما نتانياهو بخبث. ألقى بثقله في المعركة الانتخابية الأميركية خلف ميت رومني. وها هو يراقب اليوم كيف تلقي «الهجمة على أميركا» أعباء جديدة على فريق الرئيس أوباما. سار أوباما في خط كان على نقيض الخط الذي نهجه سلفه الرئيس جورج بوش الابن. اعتمد مقاربة سياسية مختلفة على المستوى الدولي. راعى الحساسيات التي خلفتها الإدارة السابقة بقيادتها العالم بعيداً من التوافق أو التفاهم مع القوى الأخرى. راعى القوى القديمة والقوى الصاعدة، من أوروبا إلى روسيا والصين. ودفع إلى الواجهة بقوى إقليمية كبرى لأداء أدوار كانت واشنطن تقوم بها عادة. وسحب القوات الأميركية من العراق. ويعد العدة للانسحاب من أفغانستان. وهو يطرق كل يوم أبواب «طالبان» للتفاهم على المرحلة التي ستلي هذا الانسحاب. وخاطب العالم الإسلامي بلغة انفتاح من تركيا ومصر. وبعث إلى إيران بأكثر من رسالة مباشرة. ولم ينجرف نحو استقدام القوة على رغم إلحاح اليمين الإسرائيلي وبعض القوى المحافظة في الولاياتالمتحدة. وفي قضية الشرق الأولى حاول جاهداً بلا نتيجة دفع مسيرة السلام، لكن اليمين الإسرائيلي حاصره وحال دون تحقيق ما وعد به العرب والفلسطينيين. والصورة التي قدمها أوباما عن إدارته في «الربيع العربي» تشبه الصورة التي حفظتها أوروبا عن الجنود الأميركيين الذين عبروا الأطلسي للمساهمة في تحرير فرنسا وإيطاليا بل كل أوروبا من غزو النازيين. لكن المفارقة المؤلمة للأميركيين أنهم يشاهدون اليوم القوى التي دعموا حراكها بالأمس للحصول على الحرية والحكم يتوسل بعضها هذه الحرية للهجوم على بعثاتهم ومصالحهم. تماماً كما شاهدوا ويشاهدون بعض القوى العراقية التي دخلت بغداد في آلياتهم العسكرية وهم يكيلون لها أقذع الكلام ويرفعون في وجهها البنادق... ويقفون موقف إيران منها! قبل نيف وعامين خلص استطلاع أجرته «مؤسسة زغبي إنترناشيونال» ونشره المعهد العربي - الأميركي في واشنطن إلى أن «الانقسام الحزبي في الولاياتالمتحدة على القضايا ذات الصلة بالعرب والمسلمين عميق إلى درجة تثير القلق». فمواقف الديموقراطيين من العرب كانت إيجابية بنسبة 57 في المئة، ومن المسلمين إيجابية بنسبة 54 في المئة. أما مواقف الجمهوريين من العرب فكانت سلبية بنسبة 66 في المئة، ومن المسلمين بنسبة 85 في المئة! ووافق 62 في المئة من الديموقراطيين على مقولة إن الاسلام دين السلام، بينما عارضها 79 في المئة من الجمهوريين! كيف ستكون هذه الأرقام اليوم بعد «الهجمة» على المصالح الأميركية؟ سيتساءل الأميركيون اليوم ما هي السياسة التي يجب انتهاجها حيال العالم العربي؟ فإذا كانت سياسة بوش أيقظت أحقاداً وثارات كانت خامدة من قرون، فإن سياسة أوباما المناقضة تماماً لم تبدل، على ما يبدو، الكثير في موقف الذين تساءل الأميركيون بعد 11 سبتمبر «لماذا يكرهوننا»؟ ربما كان على أميركا أن توقف هذه الحملة التي شنتها لتغيير وجه الشرق الأوسط. ولكن هل تستطيع؟ هل تتخلى عن رعاية مصالحها في هذا الشرق بهذه البساطة؟ غضبت الولاياتالمتحدة منتصف القرن الماضي وساورتها مخاوف من إخلاء بريطانيا المنطقة بفعل عوامل كثيرة على رأسها المتاعب الاقتصادية. فسارعت إلى الزحف لاحتلال المواقع البريطانية والفرنسية في المنطقة. واليوم بعدما انهارت عملياً معظم نتائج الحملة التي شنتها الإدارة السابقة على المنطقة. ولا يحتاج الوضع إلى شرح ما يواجهه النفوذ الأميركي من اعتراض قوى تتحداه من روسيا إلى الصين، ناهيك بإيران... فهل تنسحب واشنطن بعد كل هذه التضحيات لتحل محلها موسكو أو بكين أو طهران أو أنقرة... أم تواصل دعمها «الربيع العربي»؟ إذا كان مطلوباً من القوى الإسلامية الصاعدة في المنطقة محاصرة قوى التشدد والتطرف، فإن على أميركا أيضاً أن تحاصر قوى التطرف لديها، فلا يتساءل بعض المسلمين أيضاً «لماذا يكرهوننا؟». فمن يطارد جوليان أسانج صاحب موقع «ويكيليكس» لأنه عرّض ويعرّض الأمن الأميركي للخطر، حري به أن يطارد أصحاب فيلم يعرّض مصالح أميركا ووجود بعثاتها للخطر. ومن سن قوانين واعتمد إجراءات تحدٍّ من الحريات بعد اعتداءات 11 سبتمبر فهل يعدم السبل والوسائل لمحاصرة المتطرفين من دون المساس بالحريات العامة؟