يذهب كل شيء، أحاديث مقاهي الأحياء القديمة، الأخبار التي تتحدث عن، وكل القرارات والعهود الني تم تبادلها طوال الفترة التي كانت حاضراً، وحين تتحول الفترة إلى تاريخ تتلاشى جميعها، وكأنها لم تحدث. ذاكرة العالم لا يمكنها أن تحتفظ بكل شيء. لا يمكن تذكر جميع الأصوات التي صدرت خلال مرحلة ما، لكن أغنية جميلة تستطيع التسلل إلى ذاكرة العالم بكل خفة. لا يمكن إحصاء جميع الصور التي تمر، ولا جميع الملامح التي تعبر تاريخ ما. لكن لوحة اقتطعت من روح راسمها جزء، تمر بثقة إلى ذاكرة التاريخ لتخلد هناك. ببساطة: الفن هو ذاكرة العالم الحية، لا يمكنك تصور الأشياء التي يمكن قراءتها من تاريخ أمة عن طريق منتجها الفني. ولأن العالم عرف إلى مدى تبلغ أهميته، حوًله مشاركاً ذا دور مهم في معظم الأحداث التي جرت عبر تاريخه -العالم-. تستطيع الوصول إلى أن أمة ما تقع على شمال الأهمية، حين ترى مدى تدني مستوى ما تنتجه من عمل فني. «نعم هنا تأتي قصة العاصفة.. الرجل الذي اتهمته السلطة.. لشيء لم يفعله قط.. وضع في زنزانة لكن مرة من المرات كان بطل العالم». عام 1975 وبهذه الكلمات كان صوت بوب ديلن المغني الأميركي الأبيض يصدح معلناً موقفه المناهض لسجن الملاكم الأسود روبين كارتر والمشهور بالعاصفة. واصفاً فيها -الأغنية- قضيته، ما الذي حدث فعلاً، وما الذي رأت العدالة المعماة بالعنصرية أنه حدث، لا تزال هذه الأغنية باقية قبل سجلات القضية، ويقرأ من خلالها معظم ما جرى في تلك القصة وبأدق التفاصيل. وفي عام 1969 غنى الإنكليزي جون لينون: «أعطوا السلام فرصة» لتصبح النشيد الخاص بالحركة الأميركية المضادة لحرب فيتنام. وعلى رغم قوة السلطة، إلا أن الفن نضال لذلك أطلق سام كوك أغنية منفردة تحمل الاسم «التغيير سيأتي»، في أوج نشاط حركة الحقوق المدنية في الولاياتالمتحدة في عام 1963، والتي تعنى بحقوق الأميركيين من أصول أفريقية المضطهدة -في ذلك الوقت-. وبعد أن نشرت الكاتبة الأميركية بيتي فريدان كتابها «السحر الأنثوي» في عام 1963 الذي كان يعتقد جميع النقاد بأنه الشعلة التي أطلقت الموجة الثانية من الحركة النسوية المعنية بالمساواة بين الذكر والأنثى. أتى صوت ليزلي غور دافئاً في العام نفسه وهي تغني «ولا تخبرني ماذا أفعل.. ولا تخبرني ماذا أقول.. وأرجوك عندما أخرج معك، لا تضعني تحت ناظريك.. لأنك لا تملكني» في أغنيتها الشهيرة «أنت لا تملكني». تماماً كما يقع على المثقف من واجب، يقع على الفنان العبء نفسه، وكذلك الشاعر. أن يكونوا عدسة لما يريده الشعب، وما يجب أن يكونه. وحين تختطفهم يد السياسي لأعوام طويلة جداً، وتتلاعب بهم، تظهر صورهم وقتها مشوهةً وضبابية. المثقف يأتي بعد سنوات من الظلم والتمييز والاحتقان والتفرقة العنصرية وسوء استغلال السلطات، وغيرها من الفواتير الطويلة التي أنتجها صمت السنين ليتحدث عن: «الخطاب الدوغمائي في المنتج الأدبي للقرن الثامن عشر». بينما ينصرف الشاعر للحديث، ومحاولة إقناع الوجوه التي تسمرت أمامه أن قوام حبيبته هو أفضل قوام في العالم، وفي مكان ما من بين كل هذه التشوهات يأتي صوت الفنان المغني ناشزاً: «قلب قلب وين؟ وين؟ .. غايب عليا يومين! .. بسبس بسبس .. بسبس ميييو». كاتب سعودي [email protected]