الاثنين 3/9/2012: العدّاد السوري أقفل التلفزيون وأغمض عينيك، بلا صورة ولا صوت. أنت حبيس الغرفة ترى في الغرفة حصنك، جنتك، فلا تطل من شباكك على جحيم الناس. ومثل نعامة رأسها في التراب، تهرب من موتهم إلى عزلتك الأشبه بالموت. هذي بلاد تكرر مقتلتها وخرابها بالقول نفسه، بالفعل نفسه. لا جديد حتى في الحرب. حكام يعتبرون أنفسهم ظلال المقدس ورموز خلوده، ومعترضون يريدون تبديل مقدس بآخر. يمكن إقفال التلفزيون، لكن العدّاد السوري لا يتوقف، وتسجل مركبة الموت والخراب كل يوم حوالى 150 قتيلاً و150 بيتاً مهدماً. نحصي أيامنا ويحصون قتلاهم وخرابهم، والعالم يتفرج حتى اقتراب النهايات. هذه سورية. إنها نحن، الغارقون في الأيديولوجيا حتى عمى البصر والبصيرة. إنها بلادنا الممسوسة بالحروب الموسمية منذ قرون. نكرر التجارب ولا نتّعظ. إقفل التلفزيون واغمض عينيك، يأمرني صديقي ليحافظ على ما تبقى من عقلي، وهو يذكرني بما قرأت وما قرأ منذ إقبالنا النهم على مطالعة الأدبيات العربية القديمة والحديثة، يقول: أتحداك أن تذكر نصاً عربياً صافياً يمجّد السلام والمحبة من دون أن يكون ذلك التمجيد حيلة للهيمنة. يرغب صديقي في كتابة عربية تأسيسية عن السلام والمحبة باعتبارهما غاية لا وسيلة. الثلثاء 4/9/2012: المحطة أنتِ هناك بلا مكانك فأين ألتقيكِ. لا تكفي الثياب ولا تصفيفة الشعر لنكرر لقاءات بلادنا، لا الشجرة هنا ولا ظلها ولا الحديقة وأصوات العصافير والفلاحين وعصف الهواء من الوادي. أنتِ هناك بلا مكانكِ، تحادثنا فلبيت دعوتكِ. كان المترو طريقي من المطار إلى محطة وسط المدينة، وحين صعدت من تحت الأرض رأيت ضياء الدنيا وأنت على رصيف الانتظار. معاً نحن وثالثنا ورابعنا وخامسنا عابرون لا يلتفتون، ومعاً عناقنا بلا شهود ولا رياح أليفة. لا نتجه إلى بيت فلا بيت يجمعنا في هذه المدينة. معاً في المقهى حيث الرواد بلا إلفة كأنهم هبطوا للتوّ من كواكب متباعدة. أنت في المقهى وأنا معك والمكان عالمي، ليس مستقراً للمسافر بل محطة بين مكانين. أعرف من أين جئت ولا أدري وجهتي. قلت أتجه إليك فرأيتك في محطة لا في مكان. وكأنك تقدرين هواجسي لحظة اللقاء، لذلك همست لي بما كان يرعبك كي نتشارك القلق: المحطة مسكننا وليست مجرد مكان للعبور. لم تقولي إن العبور يكون إلى الضفة الأخرى من الحياة. لم تجرؤي. الأربعاء 5/9/2012: أنوار لبنان يقول الأصدقاء العرب: لم ينطفئ الأمل. هناك لبنان نزوره، ندخل في ألوان منتدياته، نقرأ كتبه ومجلاته وجرائده، نسمع موسيقاه، ونتجول في طبيعة أنتجت حساسياته الفنية الآسرة. ولبنان الباقي لأهله هو لنا أيضاً، نحن محبيه والمستوحين منه رجاء لغدنا، ومثالاً لبلادنا كي نستطيع عيشاً نحن والأبناء والأحفاد. صورة لبنان هذه يحتاجها الأصدقاء العرب في أيامهم (أيامنا) الصعبة، حين تهجم عليهم من أنفسهم احتقانات التاريخ والشيزوفرينيا وانفعالات القسوة التي لا رادّ لها. هل يعرف اللبنانيون قيمة وطنهم، قيمة اجتماعهم المتنوع؟ أشك في ذلك، لأن الضربات التي تلقاها لبنان منذ أواسط السبعينات وهجرة الغالبية من أحراره ومبدعيه، تجعله عاجزاً عن التمثل بصورته المعهودة له وللآخرين. يكفي أن تلحظ أخلاقيات الأغنياء الجدد، أغنياء الحرب والتزوير وبيع المواقف السياسية، لتدرك الانحطاط الذي ينحدر إليه المجتمع اللبناني. أما الإبداع فيكفيه مغنون ومغنيات مثل شهب تنطفئ بسرعة، وموسيقيون يجمعون ألحانهم من هنا وهناك، تأليفاً لا إبداعاً، وكتابات أكثرها وصف بارد ومذكرات بلا جدوى، ومجلات ذات قيمة راقية لا تبيع أكثر من خمسين عدداً، وأعمال فنية تجريبية لشبان موهوبين لا تنقصهم الحماسة، يعزلهم مجتمع الاستهلاك الطائفي فيبدون مثل فرق أجنبية تعرض أعمالها ثم تعود إلى حيث أتت. يقول الأصدقاء العرب كلاماً طيباً عن لبنان، وأقول إن وطني المهتز المرتجّ بشراً وطبيعة هو اليوم صدى للعرب، يكون كما يكونون. أما المثال ومادة الوحي فهما من الماضي الذي مضى وانقضى. الخميس 6/9/2012: نجاة سعدي يوسف لم يكن سعدي يوسف جالساً في نادي اتحاد الأدباء حين هجم جنود عراقيون بأمر من قيادتهم ليحطموا النادي ويضربوا رواده بالهراوات وأعقاب البنادق. ولم يكتف الجنود باتحاد الأدباء إنما هاجموا بالطريقة نفسها نادي السينمائيين ونادي الصيادلة، وأكملوا مهمتهم بتحطيم سائر النوادي في وسط بغداد. توقع سعدي يوسف هذا السلوك وغيره من حكام العراق بعد الاحتلال، هو الذي كان يعارض استبداد صدام حسين. وعبّر عن يأسه مبكراً من هؤلاء الغارقين في المال العام يمارسون سياسات بدائية وصراعات صغيرة على المصالح. لكن تحطيم نادي اتحاد الأدباء يأتي قبل ثلاثة أشهر من إعلان بغداد عاصمة ثقافية عربية للعام 2013. وهي الطريقة العراقية الجديدة لهذا الإعلان، كي لا تكون ثقافة عراقية في بغداد، فضلاً عن ثقافة لكل العرب. ولم يسأل أحد عما إذا كانت القوة الخاصة التابعة للجيش العراقي تنفذ أمراً قضائياً، فمثل هذا السؤال لا يطرح في بغداد حيث تملأ قوات الحكومة فراغاً تركه تنظيم القاعدة، كلاهما يفجر أو يحطم، وإذا غاب واحدهما يحضر الآخر. يتداول العراقيون هذه الأيام هجائية لأحمد مطر، جاء فيها: «كان فينا قاتل يمكن أن نهرب من عينيه أو نستغفله، أو يلاقي غفلة منا فيلقينا لفكّ المقصلة، غير أنّا في مدى أكثر من عشرين عاماً لم نشيّع غير مليون قتيل وسط إعصار ثقيل من عقوبات وتنكيل وأمراض وجوع وحروب فاشله فلماذا موته أصبح مقروناً بميلاد ألوف القتله ولماذا في مدى خمسة أعوام على حكم الفئات الفاضله ضوعف القتلى لدينا دون أن يعرف منهم أحد من قتله» أحمد مطر يشفي غليل العراقيين، لكن سعدي يوسف، شاعر العراق الأكبر الحي يبقى في منفى أراده وطناً، يأساً من وطنه الأصلي. وفي وطنه/ أوطانه البديلة، بل في مقهاه المتعدد، يكتب: «مضى صيف القرنفل لا تقل لي. أجيء غداً إليك وثَمَّ كاس ستجمعنا وأسماك ونخل ولا نلجأ لسومر والمراثي ببابل والسواد الخ... الخ... لا، مضى صيف القرنفل واستقرت عميقاً وردة الزرنيخ أبعدْ ولا تأتِ. العراق الذي أحببت لم يعد العراق الذي أحببت لم يعد انتظرنا وانتظرنا قد مضى صيف القرنفل، وانتهينا».