مثل الجيش المصري منذ قيام ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، سؤالاً كبيراً في المعادلة المصرية، فهو عصب الدولة المصرية، وصمام أمانها، وله مكانة خاصة عند المصريين، لأنه المؤسسة المنضبطة في أدائها، فضلاً عن كونها السلم الآمن لصعود أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى مكانة اجتماعية أعلى. اكتسب الجيش المصري في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، مكانة خاصة في المجتمع المصري، وساهم في ذلك اضطلاعه بالكثير من المشاريع التنموية. فقد تدخل لحل أزمة الهواتف الأرضية في ثمانينات القرن العشرين، وأقام الكثير من الطرق السريعة، وشيد مصانع في المناطق الحدودية كرفح وسيناء وسيوة، ومشاريع زراعية في العوينات، كما ساهم في تعميق صناعات مهمة كالإلكترونيات والسيارات وغيرها. وللجيش المصري شبكة اجتماعية واسعة مكونة من الضباط وصف الضباط منتشرة في أنحاء مصر، لأن الفرق بين الجيش المصري ومَثيليه في سورية وليبيا كبير، فهو وليد الدولة الوطنية المعاصرة، ولاؤه للشعب الذي يعبر عن مصالحه، وليس طائفياً كالحال السورية وقبائلياً كالحال الليبية. يبدأ التأريخ للجيش الوطني المصري مع محمد علي باشا الذي كان أول من جنّد الفلاحين المصريين في الجيش. كان هؤلاء الفلاحون يهربون من التجنيد في الجيش ولا يؤمنون بفكرة الخدمة العسكرية، خصوصاً أنهم تحت قيادة ضباط من أصول تركية لا يتكلمون العربية. وجد هذا الجيش في عهد محمد علي لخدمة مشروعه وليس لخدمة مصر لكن، مع نضوج طبقة مثقفة وسياسية في عهد الخديوي إسماعيل، برز تمرد للضباط من جذور مصرية في عهد ابنه توفيق للمطالبة بالحد من نفوذ ذوي الأصول التركية وسيطرتهم على الجيش الوطني وتحسين أوضاع المجندين والضباط المصريين، ليكون هذا التمرد بداية الثورة العرابية عام 1881 التي أدت إلى الاحتلال الإنكليزي مصر 1882، وتسريح عدد كبير من أفراد الجيش المصري ليتحول أداة في يد قوة الاحتلال. هذا الوضع ظل قائماً إلى عام 1922 إذ بإعلان 28 شباط (فبراير) حصلت مصر على استقلال غير تام، ولم ينتظر الملك فؤاد اكتمال الاستقلال، فأرسل بعثات طلاب عسكرية إلى أوروبا، تمهيداً لإعادة بناء الجيش الوطني ليتسلم تأمين البلاد من الإنكليز والدفاع عن مصالحها، غير أن حادثتين أثرتا في تكوين الجيش المصري، الأولى هي معاهدة عام 1936 التي أتاحت الحرية الكاملة لمصر وأطلقت السيادة الوطنية، فالتحق بالجيش المصري أبناء الطبقات المختلفة، وكانت سبباً في التحاق كل من جمال عبدالناصر وأنور السادات بالكلية الحربية. والحادثة الثانية هي الحرب العالمية الثانية التي أعطت مخلفاتها في الصحراء الغربية معدات حديثة للجيش المصري، ومع حرب فلسطين 1948 بدا التسليح ضرورة والتصنيع الحربي حتمياً، فصنعت مصر البنادق والقنابل في ورش السكك الحديد وشيدت أول مصنعين للأسلحة. إذا كانت هزيمة فلسطين 1948 أحدثت شرخاً عربياً، إلا أنها فجرت داخل الجيش الوطني الكثير والكثير، ولا بد من أن نقر بأن مصر استدعت في هذه الفترة عدداً من الضباط الألمان لتدريب جنودها وضباطها، وحرص الملك فاروق على استكمال تسليح البحرية المصرية وسلاح الطيران، بل على توفير العتاد لهذا الجيش. غير أن ثورة تموز (يوليو) 1952، سمحت للمرة الأولى بصعود مصري من جذور مصرية لسدة الحكم، وتحول الجيش وتدريبه وعتاده والتصنيع العسكري مشروعاً وطنياً، فكانت مشاريع تصنيع الصواريخ والطائرة القاهرة... إلخ التي أكسبت الجيش شعبية لدى المصريين باعتباره محققاً لطموحاتهم في دولة قوية، لكن جاءت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 لتهز ثقة المصريين بالقوات المسلحة، لتعود هذه الثقة مع نصر تشرين الأول 1973. أعطى الجيش المصري مصر أربعة رؤساء هم محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك، فضلاً عن الكثير من الشخصيات العامة التي اكتسبت احتراماً وشعبية مثل عبداللطيف البغدادي ويوسف السباعي وثروت عكاشة وغيرهم. والسؤال المطروح على الساحة المصرية: هل سيتراجع دور القوات المسلحة في الدولة المصرية؟ من الصعب حدوث ذلك، فالجيش المصري انتقل من جيش في خدمة الحاكم والدولة إلى جيش في خدمة الدولة والشعب بعد ثورة يناير، فضلاً عن أن الالتحاق بالكليات العسكرية ما زال هو الطريق الآمن للطبقات الفقيرة والمتوسطة لصعودها اجتماعياً، مع ما توفره القوات المسلحة لمنتسبيها من سكن وضروريات الحياة. والسؤال الأصعب: هل تستطيع أي حكومة مدنية الاستغناء عن قدرات الجيش الهائلة، سواء في مشاريع التنمية أم في حالات الكوارث؟ الإجابة ستكون قطعاً بالنفي، فحتى في الدول الديموقراطية كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، تلعب المؤسسة العسكرية دوراً في الحياة السياسية والخدمات العامة، بل تدفع بأبنائها إلى سدة الحكم أو تقلد مناصب رفيعة في الدولة، على غرار حالات جورج بوش الأب وكولن باول. والسؤال الأساسي: هل يمنع القانون العسكري المتقاعد من الترشح لمنصب الرئاسة في مصر؟ في الحقيقة لا، لذا فإن ظهر عسكري يمتلك كاريزما جمال عبدالناصر ودهاء أنور السادات سيحصل بلا شك على كرسي الرئاسة في مصر خلال السنوات المقبلة. * كاتب مصري