يمكن القول على سبيل القطع إن تيار الإسلام السياسي في العالم العربي بعد صعود كل من جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس إلى السلطة، يمر الآن بأخطر اختبار تاريخي في حياته الممتدة من عام 1928 حين أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين أبرز جماعات هذا التيار حتى الآن. وترجع خطورة هذا الاختبار التاريخي إلى أن جماعة الإخوان المسلمين وأشباهها في مختلف البلاد العربية، لم يتح لها أن تتولى الحكم مباشرة حتى تنفذ مبادئها المعلنة في السياسة والاقتصاد والاجتماع. على العكس من ذلك واجهت جماعة الإخوان المسلمين – بحكم لجوئها للعنف بواسطة الجهاز السري الذي أنشأه الشيخ حسن البنا لردع خصوم الجماعة – مشاكل كبرى من قبل النظم السياسية المتتابعة في مصر. ومن المعروف أن الجماعة قامت عن طريق جهازها السري باغتيال النقراشي باشا رئيس وزراء مصر السابق، كما اغتالت المستشار الخازندار وهو القاضي الذي حكم على أعضاء الجماعة الذين كانوا متهمين بارتكاب جرائم إرهابية. وقد ترتب على ذلك صدور قرار بحل الجماعة، كما اغتيل الشيخ حسن البنا نفسه في ظروف غامضة، وقيل أن جهات رسمية هي التي قامت بذلك، كما زج في السجن بعشرات من أعضاء الجماعة. وتكرر الصدام الدامي بين الجماعة والضباط الأحرار الذين تولوا السلطة بعد الانقلاب الذي قاموا به عام 1952. وذلك لأن الجماعة حاولت اغتيال جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية، مما ترتب عليه حل الجماعة ومحاكمة قادتها بل والحكم على بعضهم بعقوبة الإعدام. وقد قمع حزب النهضة الإسلامي في تونس قمعاً شديداً، واضطر زعيمه راشد الغنوشي إلى الهجرة خارج البلاد ولم يعد إلا بعد قيام الثورة. ما الموقف الآن بعد تولي الإخوان المسلمين السلطة في مصر، خصوصاً بعد فوز الرئيس محمد مرسي زعيم حزب «الحرية والعدالة» برئاسة الجمهورية؟ لقد سبق لجماعة الإخوان المسلمين في العقود الماضية أن رفعت شعارها الشهير «الإسلام هو الحل». وقد انتقدنا هذا الشعار عديداً من المرات في مقالاتنا وأبحاثنا المنشورة على أساس أنه شعار فارغ من المضمون، قد يصلح كشعار انتخابي يجذب العامة والبسطاء من المواطنين، ولكنه في الممارسة لا يصلح لمواجهة المشاكل الجسيمة التي تواجه أي مجتمع معاصر في عصر العولمة، خصوصاً بالنسبة إلى مجتمعات عربية مثل مصر وتونس، فشلت الحكومات فيها في إشباع الحاجات الأساسية للجماهير العريضة، نتيجة غياب الرؤية الاستراتيجية من جانب، وفساد أهل النخبة السياسية ورجال الأعمال من جانب آخر. وقد أدت التطورات الأخيرة في مصر بعد ثورة 25 يناير إلى انزواء الائتلافات الثورية وتهميشها سياسياً لأنها مفتتة ومشرذمة، وليس لها علاقة عضوية بالشارع ولا صلة مباشرة بالجماهير. وكانت النتيجة الطبيعية أن قفزت جماعة الإخوان المسلمين إلى قطار الثورة المندفع، واستطاعت في الانتخابات البرلمانية أن تحوز على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، قبل أن ينجح الدكتور محمد مرسي رئيس حزب «الحرية والعدالة» الإخواني في اعتلاء كرسي رئاسة الجمهورية. وقد دخل مجلس الشعب الإخواني السلفي في معارك دامية مع حكومة الدكتور الجنزوري وشن عليها حرباً ضارية وطالب بإقالتها، ورفض كل مشاريعها خصوصاً اقتراحها بالحصول على قرض من البنك الدولي قيمته أكثر من ثلاثة ملايين دولار. ورفض مجلس الشعب هذا القرض على أساس أن فوائده تعد من وجهة النظر الإسلامية ربا، وهو أشد المحرمات من وجهة نظر الشريعة الإسلامية. أصرت جماعة الإخوان المسلمين على رفض القرض على رغم أن الرأي القائل بأن الفوائد عموماً إنما هي ربا هو استخدام للقياس بطريقة خاطئة، كما أكد عديد من الفقهاء والمشايخ المعتدلين في مصر، والذين أدركوا أن النظام الاقتصادي العالمي المعاصر يختلف جذرياً عن الاقتصاد التبادلي البسيط الذين كان سائداً في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم). ومن جانب آخر يدرك عدد من علماء الاقتصاد المصريين والعرب، إضافة إلى جمهرة المثقفين، أن أدوات التعامل الاقتصادية في العالم المعاصر تتضمن لجوء الدولة إلى القروض والمنح بما في ذلك من فوائد بالضرورة، ولذلك اعتبروا أن الآراء الرافضة إنما تتبنى مواقف رجعية محافظة، وتؤسس على هدى مبادئ بالية لا تصلح للتعامل في عصر العولمة. وتشاء الظروف حين تولى الرئيس محمد مرسي رئاسة الجمهورية في مصر أن تبادر أول وزارة شكلها برئاسة الدكتور هشام قنديل إلى إجراء مفاوضات جادة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض قيمته 4 ملايين دولار. وتعالى عديد من الأصوات سواء من خارج جماعة الإخوان المسلمين أو من داخلها على أن في هذا المسلك تناقضاً في المواقف. لأن الجماعة سبق أن رفضت فكرة القروض والفوائد من قبل، فكيف تلجأ إليها الآن بعد أن استلمت الحكم! وأين شعار «الإسلام هو الحل»؟ وأين حلول ما يسمى الاقتصاد الإسلامي والذي يزعم دعاته أنه يختلف جذرياً عن الاقتصاد الرأسمالي الربوي؟ ولكن الجماعة دفاعاً عن سلوكها المزدوج وانتهازيتها السياسية لم تتوان عن نشر بحث يجيز الاقتراض بالربا من صندوق النقد، لأن «الضرورات تبيح المحظورات»! وهذا البحث قام به أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وهو الدكتور حسين شحاته والذي يتضمن دفاعاً هزلياً عن شرعية الحصول على قرض البنك الدولي مستخدماً في ذلك أساليب أقرب إلى الحيل الفقهية التي كان يلجأ إليها الفقهاء لحل المشاكل المستعصية التي يفشلون في إيجاد حل لها! وقد نشر هذا الباحث بحثه في موقع «إسلام أون لاين» الناطق الرسمي باسم الجماعة، والذي ذكر فيه صراحة أن جمهور الفقهاء يرون أن فائدة القرض هي عين الربا المحرم، ويستشهد على ذلك بأحاديث نبوية متعددة. وبعد مناقشة سوفسطائية قرر – لا فض فوه - شرعية حصول الحكومة الإخوانية على القرض الدولي، لأن الضرورات تبيح المحظورات وهي قاعدة شرعية حاول بها أن يحل مشكلة التناقض بين موقف الجماعة السابق وموقفها الراهن. غير أنه إضافة إلى ذلك طالب «ولي الأمر» بالرجوع إلى «أهل الحل والعقد» للتحقق من ضوابط اللجوء إلى هذا القرض. ومعنى ذلك أننا في الواقع دخلنا من مجال الحكومة المدنية إلى ميدان الحكومة الدينية التي تقوم على أساس الفتاوى التي يصدرها الفقهاء لحسم القراءات السياسية والاقتصادية. وقد سبق لنا أن أكدنا أن الدولة العصرية لا يجوز لها أن تقوم سياساتها المختلفة على أساس الفتاوى الدينية التي يصدرها مشايخ وفقهاء لا يعرفون شيئاً عن طريقة عمل مؤسسات وآليات العالم المعاصر. والدليل على ذلك أن هذا الباحث يقترح حلولاً بديلة هي تطبيق نظام الزكاة والوقف الخيري للمساهمة في التنمية الاجتماعية وحل مشكلات التمويل. ويبدو أن كلاً من الباحث وجماعة الإخوان المسلمين مجبرة على التخلي عن شعاراتها المعلنة الفارغة من المضمون كما أكدنا من قبل والالتزام بالتعامل في ضوء آليات العالم المعاصر! * كاتب مصري